قراءة في كتاب "كليلة ودمنة" بقلم: رجا القحطاني

فن وثقافة

الآن 700 مشاهدات 0


تمهيد:


هو كتاب ينم عن أن مخيلات الأدباء والكتاب القدماء لا تقل خصوبة وابتكارًا عن مخيلات الأدباء والكتاب المعاصرين وصناع أفلام الخيال العلمي، حيث إن كتاب كليلة ودمنة يتضمن في أغلبه قصصًا خيالية متنوعة دارت أحداثها والحوارات بين شخصياتها على أفواه المخلوقات الحية غير البشرية مثل الأسد والذئب والثور والغراب وغير ذلك ، وتتناول مضامين القصص السلوكيات الإيجابية أو السلبية والحكم والمواعظ ،تلك المخلوقات تتكلم وتتفاهم فيما بينها بلغة البشر ،إنما في نطاق بيئتها الخاصة بها كالغابة أو النهر أو الصحراء وغير ذلك ،وهذا النوع من الكتابة ذات المنزع الخيالي لم يكن مألوفًا في الأدب الشرقي القديم،

وتجدر الإشارة إلى ان "كليلة ودمنة" هو في الأصل كتاب هندي أو جزء من كتاب اسمه "بنجا تنترا" تمت ترجمته إلى اللغة الفارسية في عهد كسرى أنوشروان، بعد ذلك قام  عبدالله بن المقفع الذي يتقن الفارسية بترجمته إلى العربية بأسلوب أدبي موفق، ولم تكن الترجمة حرفية مباشرة، حيث أن ابن المقفع الذي أظهر هذا الكتاب في القرن الثاني الهجري، وقدمه للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور لم يعمد إلى تغيير مضامين الرواية الفارسية لكليلة ودمنة حتى لا تفقد القصة محتواها الموضوعي الحقيقي، إلا ان المهارة الأدبية والبلاغة اللغوية لابن المقفع منحت "كليلة ودمنة" بعدًا إبداعياً اضافياً، وثمة أقوال تشيرإلى أن ابن المقفع ذاته أضاف إلى "كليلة ودمنة" قصصاً من خياله، وقد أورد ذلك القول أستاذ الفولكلور العربي في جامعة الكويت الراحل د. محمد رجب النجار في كتابه "التراث القصصي في الأدب العربي"،حيث أشار إلى أن نصف القصص في كتاب ابن المقفع ليست موجودة في الكتاب الهندي "بنج تنترا"!كذلك ليس موجودا في الكتاب الهندي الحوار التمهيدي لكل قصة بين الملك دبشليم والفيلسوف ديدبا ،أي أن مقدمة كل قصة من تأليف ابن المقفع،كما أورد د.النجار أسبابا أخرى..

المحتوى:


كتاب "كليلة ودمنه " تحقيق د.طه حسين ود.عبدالوهاب عزام يحتوي على 18 بابًا منها باب عرض الكتاب لابن المقفع، وباب توجيه كسرى برزويه إلى الهند لطلب الكتاب، وخمسة أبواب تتضمن قصصًا تمثلها شخصيات بشرية في القصة الرئيسية ،مثل برزويه الطبيب، وابن الملك وأصحابه، وشادرم ملك الهند، والسائح والصواغ، والناسك والضيف.

كما يضم الكتاب قصة يشترك في أحداثها شخصية بشرية وأخرى غير بشرية وهي "الملك والطير قبّرة"، حيث دار بينهما حوار عدائي (قال الملك: فعلنا ذلك بك فانتقمت منا، فارجع إلينا آمنًا، قال قبرة: لست راجعًا إليك).
والأبواب المتبقية وهي الأكثر عددًا تدور أحداث القصص فيها على ألسنة المخلوقات الحية غير البشرية

بنية الكتاب:


تبدأ كل حكاية من حكايات "كليلة ودمنة" بحوار بين ملك الهند دبشليم وكبير الفلاسفة في بلاطه الحكيم ديدبا، فهما القاسم المشترك بين جميع القصص ويمهدان للقصة أو الحكاية من دون أن يشتركا فيها مشاركة فعلية، إذ يوجه الملك  سؤالا إلى الفيلسوف حول معنى إنساني أو صفة أخلاقية في الخير أو في الشر (قد سمعت خبر الواشي المحتال الماهر بالخلابة، كيف يفسد الود الثابت بين المتحابين فأخبرني إلام أمره، فقال ديدبا: إنا وجدنا في الكتب... ) فالملك هو السائل والفيلسوف هو المجيب دائمًا.

ومن خصائص "كليلة ودمنة" أن القصة الأصل قد تتوالد منها  قصص فرعية منسجمة مع القصة الأصل وفقا لسياق الحوار بين شخصيات القصة، كأن يستشهد أحدهم بأمر واجهه فيسرده على هيئة قصة فرعية، كما جاء في باب البوم والغربان (قال الغراب: ومن ابتلي بسلطان المخادعين أصابه ما أصاب الصفرد والأرنب الذين حكما السنوّر الصوام، قالت الطير: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: كان لي جار من الصفارد..)
وأرى أن إدخال حكاية فرعية في حكاية رئيسية في موضع الاستشهاد أو التبيين يمنحها وضوحًا موضوعيًّا وبعدًا تشويقيًا، شريطة أن تكون متواءمة في فكرتها مع أحداث الحكاية الأصل، وأن لا تكون جانحة إلى الإطالة كي لا تبتعد الفكرة الرئيسية عن ذهن القارئ.

الإسقاطات:


ومن اللافت للنظر أن القصة في "كليلة ودمنة" التي تمثلها المخلوقات الحية غير البشرية تصور عالمًا منظمًا قائمًا بذاته يجمع الملك والوزراء والرعية والموالين والمتمردين وغير ذلك (وكان في تلك المدينة جرذ يسمى مهرايز وكان مملّكا على جميع الجرذان، وكان له ثلاثة وزراء يشاورهم في أموره)

وقد يُستنتج من ذلك أن مؤلف تلك القصص أراد وضع إسقاطات سياسية أو اجتماعية على حال المجتمع البشري من خلال جعل العالم الخيالي غير البشري رمزًا للعالم الواقعي البشري في المواقف والتصرفات الصائبة أو الخاطئة والحكم والمواعظ، وربما عمد إلى استخدام المجتمع الخيالي بدلاً من المجتمع الحقيقي خوفا من عقاب السلطة في تلك المرحلة التي عاش فيها الكاتب، وإن كان الاستنتاج الأكثر ترجيحًا أن الكاتب استهدف العامل التشويقي في إيراد تلك القصص على ألسنة المخلوقات غير البشرية.
لا شك أن كتاب "كليلة ودمنة" أثار اهتمام الباحثين العرب وغير العرب على تعاقب العصور لما يحمله من قيمة أدبية قصصية مغايرة للأدب السائد في عصره (طُبع الكتاب لأول مرة في باريس طبعه المستشرق الكبير سلفستر دي ساسي)، وقد اعتمدت الطبعات العربية التي جاءت لاحقا على طبعة دي ساسي كما أشار الدكتور عبدالوهاب عزام في مقدمة الكتاب محل التناول في هذا التقرير (فالطبعتان اللتان أخرجتهما مطبعة بولاق سنة 1249 وسنة 1251 هــ في عهد محمد علي باشا صورتان من طبعة دي ساسي إلا كلمات قليلة)

الخلاصة:


يمكننا الخلوص إلى أن كتاب "كليلة ودمنة" الذي هو هندي الأصل تمكن بكينونته القصصية الخاصة من العبور إلى الحضارتين الفارسية والعربية بواسطة الترجمات الموفقة، إذ نقله برزويه إلى بلاد فارس بترجمة جيدة انعكست إيجابًا على الترجمة العربية من خلال عبدالله بن المقفع الذي جمع بين جودة النص المترجم والمهارة الذاتية في السرد الفني والمستوى اللغوي ، على الرغم من نسبة بعض القصص

إليه، وليس مستبعدًا أن كتاب "كليلة ودمنة" بنزعته الخيالية دفع أدباء وشعراء جاؤوا بعد فترة ليست طويلة من ظهور هذا الكتاب إلى إظهار نتاج أدبي ذي منزع خيالي مثل رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد، وان اختلفت الرسالتان في محتواهما الموضوعي عن المحتوى الموضوعي لكتاب "كليلة ودمنة" وليس مستبعداً أيضاً ان شاعر الماضي القريب أحمد شوقي قد تأثر بمعطيات هذا الكتاب من خلال قصائده المتضمنة قصصاً تدور حواراتها على أفواه المخلوقات الحية غير البشرية.

** الاقتباسات من كتاب "كليلة ودمنة" تحقيق د.طه حسين، د.عبدالوهاب عزام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة إصدار 2012م

تعليقات

اكتب تعليقك