محمد الرميحي: موت المثاليّة!

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 365 مشاهدات 0


بأي درجة من القياس، فإن العالم منقسم إلى أكثرية وأقلية تجاه الحرب في أوكرانيا، الأكثرية ليس لها مقياس واحد للحاق بالمعسكر، بعض دولها لها مصالح وأخرى متخوفة من "المثال" الذي يتم في أوكرانيا (احتلال دولة أكبر لأخرى أصغر)، وبعضها ينظر إلى المصالح المستقبلية. كذلك الدول الملتحقة بمعسكر الأقلية، بعضها متخوف من غضب موسكو وأخرى طامحة إلى رضاها. بقية الدول واقفة على الحياد.
 
إلا أن الدروس التي يمكن أن تُستخلص من الصراع القائم في أوكرانيا بالنسبة إلينا نحن العرب ذات أهمية، وهي تتلخص في موت المثالية. إن كان البعض يعتقد أن هناك قيماً دولية يمكن الركون إليها في كل الأحوال، فعليه أن يغادر هذا الوهم وبسرعة، الأمثلة عديدة، منها:
 
الأول: أن هناك لاجئين بعيون زرق وآخرين بعيون عسلية. فالضجة التي أحدثها الإعلام العالمي وتبعه الإعلام العربي (عن حق)، هي لإظهار المعاناة الرهيبة للاجئين الأوكران وهم يزحفون إلى مناطق آمنة في الداخل الأوكراني أو في الجوار، وفتح باب الاستقبال لهم من كل الدول الأوروبية، وحتى الولايات المتحدة، تقريباً بلا حواجز! في المقابل، نرى صفوف اللاجئين من الشرق الأوسط (أصحاب العيون العسلية) يبقون أشهراً على الحدود الأوروبية، وفي بعض الأوقات تُطلق عليهم النار، وترفض دول أوروبية حتى السماح لهم بالمرور، ويتاجر بهم سماسرة بيع البشر، ويقبع آخرون في معسكرات مزرية منذ سنوات، وإذا سُمح لبعضهم بتخطي تلك الحواجز، فإن شروط بقائهم تتعقد يوماً بعد يوم، ويموت آلاف في البحر المتوسط أو بحر المانش، طلباً للجوء آمن!
 
البعض يرى أن هناك ازدواجية في التعامل الدولي مع المشكلات نفسها، فالمثالية سراب، كما أخبرنا منذ فترة طويلة جورج أورويل في "مزرعة الحيوانات": "كل الحيوانات متساوية، ولكن بعضها أكثر مساواة من غيرها"! حقيقة إنسانية بسيطة: بعض البشر تجب العناية بهم أكثر من آخرين، وكذلك الدول، فقد اكتشف البعض (فجأة) أن التدمير الذي أحدثه الجيش الروسي في بعض مدن أوكرانيا يشبه تماماً التدمير الذي أحدثه الجش نفسه في حلب (المدينة العربية التاريخية) والتي يسكنها بشر يتنفسون كما يتنفس سكان مدن أوكرانيا، لكنهم تُركوا تحت نيران نظام قمعي صلف تساعده دولة عظمى من جانب، وعصابات عمياء نشأت نسبياً بسبب تقاعس المجتمع الدولي من جانب آخر، ولا تُذكر حلب والمدن السورية الأخرى التي جُرّب في أهلها أحدث أنواع الأسلحة الفتاكة، إلا كمثال، لا للفحص ولكن للإشارة!
 
الثاني: على مقلب آخر، سمع العالم ضجيجاً هائلاً حول أخطار تغير المناخ وضرورة تقنين استخراج الطاقة الأحفورية، وتم ذلك في مؤتمرات عُقدت على أعلى المستويات، وتحدث بعضهم عن عقوبات تُفرض على الدول التي تخرق ما وُضع من قواعد للحفاظ على المناخ، لأن ذلك له علاقة بسلامة البشرية، وما إن انفجر الصراع في أوكرانيا وشعر الجميع باحتمال حصول شح في توفر الطاقة مع ارتفاع نسبي في أثمانها، حتى بدأ الضغط من أجل إنتاج أكثر وأكبر من الطاقة الأحفورية، ونسي الجميع ضجة علة المناخ وخطورتها على العالم! فمن لا يزال يعتقد أن هناك مثالية في العلاقات الدولية فعليه أن يراجع ثوابته، هناك فقط مثالية نسبية أو استنسابية، إلا أن تجارة المثالية في الفضاء الدولي لا تزال بضاعة رائجة.
 
أمام هذه الصورة القاتمة أين نقف؟ نسبياً لا بد من الوقوف ضد احتلال دولة لدولة أخرى، وقد تعارف المجتمع الدولي على ذلك، ولا بد من تعضيده، والدليل على ذلك أن هناك أغلبية من الدول، إما ضد الاحتلال أو هي محايدة، أي لا تقف مع الاحتلال، وهو الموقف الصحيح. أما الحديث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، فالجميع متّهم حتى يثبت العكس. وإذا لم يكن متهماً مباشرة فهو على الأقل يكيل بمكيالين، فعند المصالح يتوقف الحديث عن حقوق الإنسان، وعندها أيضاً يغضّ الطّرف عن تدمير مفهوم الديموقراطية وإن أصبحت "ديموكتاتورية".
 
ثالثاً: كيف يمكن أن تُقاس المثالية؟ هل نحن أمام دورة أخرى من سيادة العنف ورمي كل ما أنجزه الإنسان من قوانين وممارسات للحفاظ على الكرامة الإنسانية في صفيحة الزبالة والعودة إلى قوانين الغاب (الغلبة والتسلط)؟ لا أعتقد أن أحداً اليوم لديه الإجابة الشافية عن مثل هذا السؤال المركزي الذي تفرضه حوادث العالم الأخيرة وليست الحرب في أوكرانيا باستثناء منها.  
 
لدينا أمثلة صارخة بين ظهرانينا على حضور القوة القامعة وتسلطها وغياب العدالة بمعناها الشامل. لدينا حزب مسلح في لبنان يكتم على أنفاس الدولة حتى الإفلاس، وعلى الناس حتى الموت من الخوف، ولدينا شقاق في العراق يعطل حتى انتخاب رأس الدولة ذي الصلاحيات المحدودة، ويسود المسدس على النقاش مقروناً بأفكار قروسطية خرافية، وقادماً من نظام سابق أحلّ أن يقتل الناس أمام أبواب بيوتهم! لدينا حكومتان في ليبيا، لدينا مراوحة في المكان في تونس، وفقر وقمع في السودان، وقمع إنساني هائل في إيران والأمثلة تطول.
 
نحن نشهد اليوم على مستوى العالم اختلالاً في العدالة غير مسبوق. والمعضلة أنه لا الشرق ولا الغرب يملكان تصوراً واضحاً لإحلال العدالة الدولية بما يحقق مصالح الإنسانية جمعاء. النزعة الانعزالية الأميركية التي سادت في العقود الماضية، مقرونة بتدهور الممارسات الديموقراطية، صعّدت من منسوب التوتر في النسق الدولي، وأنتجت رخاوة في النظام الأمني الدولي، وسيظل مصطلح جورج أورويل ملازماً لنا، وستنزف البشرية الكثير من الدم وتشهد الكثير من الدمار!

تعليقات

اكتب تعليقك