د.محمد الرميحي: في دارنا رهينة!

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 333 مشاهدات 0


صديق لبناني حضر إلى بلادنا قبل سنوات عديدة كصيدلي وعمل في شركة لديها مجموعة من الفروع، وكمثل غيره من اللبنانيين المخلصين في أعمالهم والدؤوبين والمهنيين، ارتقى في عمله لأن يكون نائب مدير التسويق لشبكة كبرى من الصيدليات. وكونه لبنانياً فهو طبيعي أن يكون "رهينة" مثل آلاف الرهائن اللبنانيين في دول الخليج، منهم المهندس ومدير البنك وصاحب محل لتصليح السيارات وأصحاب منشآت خدماتية عديدة. صاحبي الرهينة أصبح يسكن في فيلا جميلة في أحد الأحياء الراقية ويملك ثلاث سيارات حديثة، اثنان مع سائق، وواحدة لتنقلاته واجتماعاته وأخرى للأولاد تأخذهم الى مدارسهم الأجنبية، والثالثة من دون سائق للسيدة زوجته تستعملها في مشاويرها الاجتماعية. لديه خمسة مساعدين في المنزل، سائقان وطباخ وسيدتان تقومان بالخدمات المنزلية والعناية بحاجات الأسرة... الخمسة يعالجون بثمن بخس إن ألمّ بهم أي طارئ صحي، فقط بثلاثة دولارات في المستوصف القريب من المنزل، تشمل لقاء الطبيب والأشعة أو فحص الدم إن لزم الأمر وأي كمية من الأدوية الحديثة.

 

أما أسرة الرهينة، فمؤمن عليها من الشركة، لذلك فهي تعالج بالمجان في المستشفيات الخاصة. في فترة قريبة احتاج الرهينة ان يزرع له طبيب الأسنان ضرسين، فذهب الى عيادة رهينة أخرى من لبنان، والأخير مشهور كطبيب أسنان لديه عيادة خاصة، وتم علاج أسنانه من دون أي تكلفة عليه. يُحب صاحبي الرهينة ان يتسوّق في عطلة نهاية الأسبوع في الجمعية التعاونية في الحي والتي تحرص أن تكون بضاعتها ذات جودة ورخيصة، فيدفع العامل عربة التسوق أمام الرهينة ويتجول الأخير بين عروض الجمعية، من منصة الخضار الى اللحوم والدواجن الى لوازم المنزل، وبعد أن يتبضع يدفع العامل الذي توفره الجمعية التعاونية بعربة التسوق الى موقف السيارات القريب والمظلل، ويضع في صندوق سيارة الرهينة بضاعته التي اشتراها من التعاونية.

 

إحدى مشكلات صديقي الرهينة أنه لا يبقى في البلد في العطلات، فتارة هو في أميركا وثانية في شقته في باريس الواقعة على الضفة اليسرى من نهر السين ومطلة عليه، قريبة من الشارع التاريخي سان جيرمان المسمى عليه أشهر أندية باريس لكرة القدم، وفي بعض الأوقات يتبضع في مدينة لندن. يخطط الرهينة لإرسال أبنائه إلى الدراسة في الولايات المتحدة كونهم قريبي التخرج من مدارس أجنبية تعج بأبناء الرهائن من لبنان ومن غيرها من البلدان.

 

سألته مرة، ماذا يفتقد في لبنان؟ وكأي مواطن لبناني يحب بلده قال الكثير. قلت مثل ماذا؟ أجاب، كوني هنا رهينة أرسل السائق الى محطة الوقود فيعود بعد دقائق... هناك أنا أنتظر في طابور محطة الوقود ساعات ويتسنى لي الاختلاط بالناس والسماع الى عشقهم للوقوف ساعات منتظرين دورهم لتعبئة بضع ليترات من الوقود، فالاختلاط بالناس لساعات طويلة في الانتظار هو ما افتقده، أما الافتقاد الثاني، فهو الشموع، هناك إما أن تسير على ضوء الشمس أو تنام على ضوء الشموع لأن الكهرباء بدعة يتوجب على المواطنين الخلاص منها. كما أفتقد التبضع في محال السلع الغذائية وأهتم بعدّ الرفوف الخالية من البضائع، أما أكثر ما افتقده، فهو معرفة المغشوش من الأدوية، وتلك المنتهية الصلاحية والتي لا تتوافر هنا للرهائن، فهي هناك كثيرة ومنتشرة وتحت ظلال عصابات منظمة محمية من سياسيين!

 

قلت، وما هي الصور التي لا تفارقك ذهنياً؟ قال: كثيرة الصور التي لا تفارقني، منها صورتان على الأقل، الأولى للمواطن اللبناني الذي كفر بكل ما حوله، وقال في ساعة غضب كلاماً قوياً ضد رجل سياسة يقال إنه متدين، وما هي إلا ساعات حتى اعتذر ذلك المواطن علناً عن قوله وبشكل مذلٍ، وقد تكرر هذا المشهد كثيراً. هذا أكثر من الاغتيال، هو ازدراء للإنسانية بجمعها. أما المشهد الثاني، فهو قديم تتكون صورته من أهلنا في الجنوب أو بعضهم على الأقل عندما قابلوا القوات الإسرائيلية المحتلة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وهي تتقدم الى العاصمة بالورود ونثر الرز. في الغالب ليس حباً بهم، لكن بسبب ما أوصلتهم له "المقاومة" من شظف عيش وازدراء، فكانوا على استعداد لقبول الشيطان للتخلص من واقع مرير فرض عليهم باسم تحرير فلسطين، ولم يحرر المقاومون شبراً ... كل ما حرروه هو تحويل البعض إلى شبيحة وعصابات منظمة والآخرون الى صاغرين.

 

ثم أردف صاحبي الرهينة، فقال، أما ما افتقده كثيراً، فهو الخطابات المتكررة لراسبوتين لبنان، عندما يطل بوجهه الأصفر على الشاشة بسبب فقدان تعرضه للشمس من طول بقائه في القبو. تلك الخطابات هي الفرجة الوحيدة للضحك لأنها مملوءة بالألعاب اللغوية والتناقض. ثم تابع الرهينة بالقول، هل تذكر كتاب التفكير المستقيم والتفكير الأعوج الذي نشر في سلسلة عالم المعرفة مطلع كانون الثاني (يناير) 1987 وترجمه شيخ المترجمين المرحوم حسن الكرمي،  والذي تحدث عن "الخطاب المتفيقه"؟ هذه هي بالضبط خطابات راسبوتين لبنان، خطاب أعوج انفعالي يجر الكذب خلف الكذب، وكما قال الكتاب المشار اليه، فإن مثل هذا الخطاب يغري السذج والبسطاء والمؤدلجين، كما أغرى أدولوف هتلر أو موسوليني أتباعهم... خطابات خارجة عن السوية ومشعوذة. وفي الغالب للعقلاء لا يمكن استنتاج صحيح على حجة باطلة.

 

في كثير من الأوقات، يفكر الرهائن بشكل أفضل، وهكذا هم رهائن الولي في لبنان الجميل.

تعليقات

اكتب تعليقك