رجا القحطاني: الدعابة في شعر المتنبي!
فن وثقافةرجا القحطاني ديسمبر 28, 2021, 3:09 م 1093 مشاهدات 0
ربما لو سُئل أحدهم ماذا تعرف من أسماء شعراء العربية الأولين فعلى الأرجح سيكون اول اسم يلمع في الذاكره
أبو الطيب المتنبي
واسمه أحمد ابن الحسين ابن الحسن الجعفي الكندي
ولد بالكوفة سنة 303 هجري وتوفي ٣٥٤ هجري
كلنا نعرف عن المتنبي قصائده الضخمة الفخمة، الطوال المشحونة بالحكمة والجمال ،
بل أن بعض أبياته ذهبت مذهب الأمثال بين الناس
أليس هو القائل:
ماكل مايتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لاتشتهي السفنُ
وهو القائل:
بذا قضت الأيام مابين أهلها
مصائب قوم عند قومٍ فوائدُ
وقال أيضاً:
من يهنْ يسهل الهوان عليهِ
مالجرحٍ بميتٍ إيلامُ
وأبيات أخرى كثيرة يستشهد بها الناس دون أن يعرف بعضهم أنها للمتنبي.
هذا الشاعر العملاق الذي في الانطباع العام يتصور الناس أنه شديد التحفظ ودائم الجدية ، لكم أن تَعجبوا إذا عرفتم أن في حياته وشعره مساحة من الطرافة والظُرف وذلك من خلال مواقف مختلفة تصادفه فيعبر عنها شعرا ارتجاليا بصورة طريفة قد تبعث على الابتسام أو الضحك ، وأبياته الطريفة هذه منشورة في ديوانه أصلا. ولأن أبا الطيب هو أشهر الشعراء في عصره فكان محسودا من حاشية الأمير أو الوالي الذي ينزل في ضيافته ضيفاًعزيزاً وشاعراًمقدرا ،فكانوا يحاولون إيغار صدر الأمير او الوالي ضدالمتنبي.
وقد نزل المتنبي ضيفاً عند بدر بن عمار أمير صور وصيدا وقيل أمير طبرية وكان ابن عمار أميراً عربيًّا شجاعاً وكريماً ،يحب شعر المتنبي وينزل الشاعر منزلة الإكرام ،إلا أن بعض حاشية الأمير الذين يحسدون أبا الطيب على مكانته في بلاط الأمير وخاصة شخص يدعى ابن كروّس دأبوا على النيل من شعر المتنبي مدعين أنه ينظم أبياتاً كثيرة ومتنوعة في منزله فإذا صادف موقفاً ما في مجلس الأمير اختار من الأبيات مايناسب الموقف أو الحدث فيلقيها باعتبارها أبياتاً ارتجالية .وكان بدر بن عمار يثق بقدرة المتنبي الشعرية إلا أنه سايرهم ليكشف كذب ادعائهم ويوقعهم في الحرج.
وذات يوم أُحضرت لمجلس الأمير لعبة عجيبة على هيئة فتاة صغيرة" لها شعَر في طولها وتدور على لولب، وإحدى رجليها مرفوعة وفي يدها باقة ريحان ، وهي تدار على الجلّاس فإذا وقفت أمام أحدهم لمسها فدارت ، وهذه اللعبة المتحركة وعلى الأرجح هي من صنع أجنبي أدهشت الأمير ابن عمار وجلساءه وكان المتنبي حاضراً في المجلس الخاص ، فطلب منه الأمير أن يقول في هذه الدمية المتحركة شعراً مرتجلاً.
ماذا تتوقعون؟
هل أحس المتنبي بشي من الحيرة أو العجز؟
هل خانته قدرته الشعرية في ذلك الموقف؟
هل احتاج وقتاً طويلاً لينظم فيها شعراً ارتجاليّا وليد اللحظة؟
أبداً
ماهي إلا لحظات قليلة حتى ارتجل المتنبي أبياتاً في هذه اللعبة التي وصفها بالجارية فقال:
وجاريةٍ شَعْرها شطْرُها
محكمةٍ نافذٍ أمرُها
تدور وفي كفها باقةٌ
تضمّنها مُكرهاً شِبرُها
فإن أسكرتنا ففي جهلها
بما فَعَلَته بنا عذرُها!
عجيبٌ أمر المتنبي لم يكتفِ بسرعة القول ، بل جاء بأبيات منسقة في مبناها ومعناهاوبأسلوب فكاهي أضحك الحاضرين.
هل اكتفي الشاعر بتلك الأبيات الارتجاليه ورفع عن نفسه الحرج؟
لا... بل ارتجل أبياتاً أخرى على بحر ووزن مختلف فقال عن هذه اللعبة:
ياذا المعالي ومعدن الأدبِ
سيدنا وابن سيد العرب
أنت عليمٌ بكل معجزةٍ
ولو سألنا سواك لم يُجبِ
أهذهِ قابَلَتك راقصةً
أم رفعت رِجْلها من التعبِ!
بل أن المتنبي زاد على ذلك فواصل الارتجال شعراً عندما أديرت اللعبة فوقَعَتْ:
مانقلتْ عند مشيةٍ قدَما
ولا اشتكت من دوارها ألما
لم أرَ شخصاً من قبل رؤيتها
يفعلُ أفعالها وماعزما
فلا تلمها على تواقعها
أطربها أن رأتك مبتسما!
هذا هو أبو الطيب الشاعر المدهش في النظم والارتجال ، وكما قيل ، إن الارتجال قد يقتل الرجال، فهو ليس بالأمر السهل ، فالشاعر مطالب بأن يقول شعراً موزوناً منسقاً في مساحة زمنية ضيقة،
بعد ذلك التفت الأمير ابن عمار إلى ابن كروّس الحاقد على المتنبي فبدا على ابن كروّس الحرج الشديد.
وكان المتنبي ذكيا إذ استشعر أن ماحدث اختبار له من الأمير فقال:
ماحملك أيها الأمير على مافعلْت؟
فأجابه: أردتُ نفي الظنة" الشك" عن شعرك،
فما كان من أبي الطيب إلا أن رد على الأمير مرتجلاً أيضاً:
زعمتَ أنك تنفي الظن عن أدبي
وأنت أعظم أهل الأرض مقدارا
إني أنا الذهب المعروف مخبرهُ
يزيد في السبك للدينار دينارا
وموقف آخر وارتجال آخر للمتنبي، ولكنه موقف بين عامة الناس .
فقد رأى جمعاً من الناس يشاهدون رجلين قد قتلا جرذاً "فأراً" ،وبدا أنهم يتعجبون من حجمه ، فلم يعجب المتنبي هذا المشهد ،وإضاعة الناس وقتهم
ليشاهدوا جرذا مقتولاً ، فقال بأسلوب ساخر مضحك:
لقد أصبح الجُرَذُ المستغيرُ
أسيرَ المنايا صريعَ العطبْ
رماه الكنانيُّ والعامريُّ
وتلّاه للوجه شأن العربْ
كلا الرجلين اتّلى قتلهُ
فأيكما غلّ حُرّ السلَبْ
وأيكما كان من خلفهِ
فإنَّ به عضةً في الذنبْ !!
لعلي في هذه الكتابة بما احتوته من مواقف ترجمتها أبيات طريفة أبرزتُ بعضاً من الجانب الآخر في شعر أبي الطيب المتنبي ذلك الشاعر العملاق الذي قال عنه ابن رشيق القيرواني(جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس) .
كما أن للمتنبي أبياتاً موقفية أخرى تحمل حس الطرافة والدعابة وردت في ديوانه ، فهو كأي إنسان آخر يجدُّ وقت الجد، ويمزح وقت المزاح.
كتب رجا القحطاني
تعليقات