رجا القحطاني: التشابة والاختلاف بين الشعرين الفصيح والعامي الخليجي
فن وثقافةرجا القحطاني ديسمبر 25, 2021, 4:13 م 1065 مشاهدات 0
تمهيد:
بعد أن غابت اللغة العربية الفصحى عن أفواه العرب في تخاطبهم اليومي وتعاملهم بها في كافة شؤون حياتهم، رغم ماطرأ عليها من تغييرات طفيفة عبر تتابع الأزمنة، وتحولت الى لهجات مختلفة في المجتمعات العربية جراء عوامل عدة لسنا بصدد تناولها في هذا الموضوع، واقتصر استخدام الفصحى على مجالات معينة كالخطابات والمعاملات الرسمية ،ومحتويات الصحف والمجلات ، ونشرات الأخبار، والنتاجات العلمية والأدبية وغير ذلك،فصار لزاما على مجتمعاتنا العربية ومنها المجتمع الخليجي أن تبحث عن وسائل تعبيرية ذات لون أدبي ، لانثري أو مقالي باستخدام لهجاتها التي اعتادت عليها ، وذلك للتعبير عن آمالها وآلامها وقضاياها العامة، وخاصة في القرون القليلة الفائتة
ومن هنا جاء الشعر العامي الذي شاعت تسميته بالنبطي لدى المجتمع الخليجي ،وقد تباينت آراء الباحثين حول تاريخ نشأة الشعر العامي في مناطق الخليج والجزيرة العربية، والراجح أنه ظهر للوجود في القرن السابع عشر الميلادي كما ذكر الباحث ابراهيم الخالدي في كتابه "طواريق النبط"،ص18،ومن المثير للاهتمام أن الشعر العامي في منطقة الخليج يحمل خصائص بنائية تختلف عن خصائص الشعر العامي في المجتمعات العربية ، من جهة تطابق بعض بحور العامي الخليجي مع بعض بحور الشعر الفصيح من ناحية الوزن
وفي هذا المبحث سيتم التطرق الى تلك الأوزان المتطابقة بين الشعرين من خلال ايراد أمثلة جلية للتدليل على هذه الحقيقة ، مع التأكيد على أننا نتناول التماثل الوزني بينهما فقط، حيث أن الشعر العامي لايلتزم بسلامة اللغة مفردات وعبارات ، ولا يكترث بالجانب النحوي، وتلك شروط لايستطيع الشاعر الفصيح التهاون بها البتة،علما بأن الشاعر العامي يحرص على توظيف أرقى مافي اللهجة العامية من كلمات وعبارات
.
:البحور المتطابقة بين الشعرين العامي الخليجي والفصيح
قيل وضع نماذج لهذا التطابق الوزني بين الشعرين تجدر الاشارة الى أن التطابق بينهما ليس مستغربا كثيرا ، خاصة اذا عرفنا أن شعراء العامية الخليجيين في هذا الزمن والأزمنة القليلة المنصرمة هم أحفاد شعراء الفصحى القدماء ، اذ انطلق الشعر العربي من شبه الجزيرة العربية وسواحل الخليج قبل الاسلام واستمر بعده، وقبل أن تنشأ مدن اسلامية في العراق والشام التى أنجبت شعراء مشهورين،لذلك استطاع الخليجيون أن يستلهموا من الشعر الفصيح بعض أوزانه ويوظفوها في بناء أشعارهم، مستخدمين لهجاتهم المختلفة نسبيا بين اقليم وآخر،وحتى بعد محاربة الأمية منذ عشرات السنين ،وانتشار التعليم النظامي ومن ضمنه تعليم اللغة العربية استمر الشعر العامي في ازدهاره ورواجه لدى المتعلم وقليل التعليم ، بالرغم من ظهور شعراء فصحى خليجيين معاصرين وان كانوا قلة في القياس العام
.
1- البحر الطويل في الشعر الفصيح ، حيث يقول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
ويعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
هذا البحر الطويل في الشعر الفصيح يتطابق معه في الشعر العامي بحر يسمى الهلالي، اذ يقول راشد الخلاوي وهو شاعر قديم ، قيل انه عاش في القرن الحادي عشر الهجري:
فقولوا لبيت الفقر لايامن الغنا
وبيت الغنا لايامن الفقر عايد
ولايامن المضهود جمع يعزه
ولايامن الجمع العزيز الضهايد
هنا يلاحظ التماهي الشكلي شبه التام بين المثالين الفصيح والعامي ، الا أن قافية المتنبي تختم بضم الميم، بينما قافية الخلاوي تنطق فيها الدال ساكنة، ويكمن الاختلاف في السلامة اللغوية والنحوية، التي التزم بها الشعر الفصيح
2- البحر الرمل
البحر الرمل في الشعر الفصيح، كقول عمر ابن أبي ربيعة:
قالت الكبرى عرفتن الفتى ؟
قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها
قد عرفناه فهل يخفى القمر
هذا البحر الرمل يماثله تماما في الوزن البحر السامري القصير في العامي، حيث يقول محمد السديري وهو شاعر سعودي مخضرم:
نور عيني ليه سنيت الجفا
ليه سنيت الجفا هو والصدود
ليه كدرت الصفا عقب الوفا
ساعة الفرقا عساها ماتعود
يلاحظ أن قافية الفصيح انتهت بتسكين حرف الراء ، وكذلك جاءت الدال ساكنة في قافية العامي ، فهما متماثلان في الوزن،واللافت للانتباه أن الشاعر السديري التزم بقافيتين متكررتين في الصدر"الجفا" وفي العجز "الوفا" .بينماالشاعر الفصيح ليس ملزما بهذا التركيب في هذا البحر
3- البحر الوافر في الفصيح ،اذ يقول أحمد شوقي :
اذا الأحلام في قوم تولت
أتى الكبراء أفعال الطغام
فيا تلك الليالي لاتعودي
ويا زمن النفاق بلا سلام
يماثل هذاالبحر الوافر من ناحية الوزن البحر الصخري في الشعر العامي ،ويقال سمي بهذا الاسم نسبة الي بني صخر حيث ابتدعوه ، يقول طلال السعيد وهو شاعركويتي معاصر:
تعاتبني بنظرات خفيه
واجاملها ولا ادري وش وراها
أجاوبها بنظرات حزينه
تعبر عن ضنا الروح وشقاها
لايوجد اختلاف بين الوزنين في أبيات الشاعرين الا أن قافية شوقي تنتهي بكسر الميم، بينما التاء المربوطه في قافية السعيد تكتب وتنطق هاء بغير تنقيط، وهذا شائع في الشعر العامي الخليجي اذا جاءت القافية على ذلك النحو،كما يلاحظ في البيتين العاميين شيئا من التجديد في الأسلوب الشعري يعكس رغبة الشاعر العامي المعاصر الانعتاق من الاسلوب التقليدي
4- البحر البسيط التام في الشعر الفصيح ، اذ يقول حافظ ابراهيم
واها على دولة بالأمس قد ملأت
جوانب الشرق رغدا في أياديها
والله ماغالها قدما وكاد لها
واجتث دوحتها الا مواليها
هذا البحر البسيط التام في الفصيح يتطابق تماما مع البحر الهجيني الطويل في العامي ، حيث يقول محمد راشد الذيب وهو شاعر عامي قطري معاصر:
والفرصه مواتيه والطاري مواتي
والشعر حاجه تعنيني واعنيها
لكن ماهو يعبر عن معاناتي
الا تعبر عن الدنيا ضواحيها
هنا بتبين لنا "التناسخ" الوزني التام بين الأبيات الفصيحة والعامية وكذلك في القافية، على أن البحر الهجيني الطويل شأنه شأن بعض بحور الشعر العامي يتخذ قافية متكررة في الصدر"مؤاتي- معاناتي " مع الالتزام بقافية العجز بطبيعة الحال
:الخلاصة
تم الاكتفاء بعرض تلك الأمثلة الدالة على التطابق وزنا بين الشعرين الفصيح والعامي في بعض بحورهما ، على الرغم من وجود أوزان أخري لاتقل تماهيا عما ماذكرناه من نماذج بين الشعرين الفصيح والعامي، مثل البحر المسحوب في العامي الذي يلتقي وزنا مع البحر السريع في الفصيح، وفي العامي يتماهى بحر الحداء مع بحر الرجز في الفصيح،وغير ذلك،اذ أن عدد البحورالمتطابقة وزنا بين الشعرين الفصيح والعامي عشرة بحور،كما جاء في كتاب"طواريق النبط" للباحث ابراهيم الخالدي ص48
ويمكننا الخلوص الى أن العلاقة الايقاعية "الوزن"بين الشعرين الفصيح والعامي الخليجي علاقة قوية، من خلال ماسلف ذكره من أمثلة متعددة ،رغم وجود اختلافات تتمثل في كينونة اللغة المستخدمة والاعتبارات النحوية، هنا ندرك أن اللغة الشعرية العامية في الخليج لم تنفصل عن روح الشعر الفصيح، فقد وظفت بعض بحور الفصيح من الناحية الشكلية ، وان التزمت باستقلاليتها اللهجية في المضمون،مع التذكير بأن شعراء العامية الخليجيين المتمكنين يختارون أنقى مافي اللهجة المحلية من مضامين تعبيرية ، أو هكذا المفترض في انتاجهم الشعري،وذلك لايعني امكانية الاستغناء عن الشعر الفصيح، فهو الأصل ، وهو الأكثر رقيا والأغزر ابداعا
المرجع: كتاب "طواريق النبط،أوزان الشعر النبطي وعلاقتها بعلم العروض" ،ابراهيم الخالدي ،الطبعة الثانية،،2012م،مطابع الدروازة
كتب رجا القحطاني
تعليقات