د. محمد الرميحي: المعضلة في المتلقي... وليس في القائل!

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 317 مشاهدات 0


من المتفق عليه إنسانياً أن الفرد (رجل أو إمرأة) يحب أن يسمع أو يقرأ أو يشاهد ما يناسب رأيه وموقفه ومزاجه، وهذا التفضيل خاضع لعدد من العناصر، منها الهوى السياسي والخلفية الاجتماعية والرابطة الدينية - المذهبية أو الثقافة العامة. لذلك فإن ما يستهويه يقوم بترديده. وفي عالمنا الذي نعيش وفي إطار الثقافة المعلومة لدى معظمنا نجد باباً مفتوحاً لإشاعة ما يناسب الفرد في وسائل التواصل الاجتماعي، جلّه إن لم يكن أغلبه (معلومات كاذبة أو مزورة) ولا يوضع اللوم على منتج تلك المعلومات، فهو في الغالب يقوم بها لسبب خاص به ودافع ذاتي متعلق بميوله ومصالح من يمثلهم أو حتى فهمه الشخصي.

 

المشكلة في المتلقي والذي بمجرد ما تصله تلك "المعلومات - الأخبار" في وسائل التواصل الاجتماعي يتفاعل معها أو لا يصدقها على الفور ومن ثم في الغالب يرسلها إلى آخرين. يستطيع القارئ أن يتذكر الكثير من تلك الصور الكاذبة والتي مرت عليه فصدقها ثم بعد حين تبيّن كذبها ولو دقق في الأمر لوجد أنها كاذبة منذ البداية.

 

أضرب بعض الأمثلة لتوضيح ما أذهب اليه.

قبل أيام انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، "اليوتيوب" تحديداً، خطاب مركز ومختصر للسيدة نائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس، الموضوع الذي كانت تتحدث عنه هو وباء كوفيد-19، وفي الشريط المدبلج تقول السيدة هاريس إن معظم من دخل المستشفيات هم الأفراد "المطعمون"! وانتشر ذلك الرأي على نطاق واسع، لأن البعض يريد أن يصدقه وقد جاءه العلم من خبير! إلا أن التدقيق في أصل الخطاب يبيّن أن هاريس كانت تقول إن معظم من دخل المستشفيات هم من غير المطعمين، وهو المنطق العلمي والعقلي. العقل الباطن للمروجين للشريط المزيف يريد أن يؤكد معلومة ليست خاطئة فقط ولكن خطيرة.

 

في مثال آخر، قررت وزارة الداخلية الكويتية في فترة سابقة أن تنظر في العدد الضخم لرخص قيادة السيارات، وظهر خبر أنها تعيد النظر في كل رخص القيادة للوافدين. سرعان ما عرض البعض الخبر، وأصدرت الوزارة تصحيحاً. إحدى الصحف المحلية عنونت في رفضها للقرارات على رأس صفحتها الأولى بالخط العريض: قرار عنصري. وبعد أيام انتشر في الكويت الخبر على الصفحة الأولى لجريدة "الأهرام" القاهرية وفيها العنوان نفسه الذي ينتقد قرار الداخلية الكويتية! وانتشر ذلك بين المتابعين وثارت ثائرة البعض، فهو تدخل سافر في الشؤون المحلية الكويتية فيما البعض أخرج كل شكواه النقدية تجاه الجريدة القاهرية من دون تمحيص. وفي التدقيق تبين أن ذلك الادعاء ما هو إلا "فوتوشوب" من عنوان الجريدة الكويتية ملصق بترويسة الأهرام القاهرية قام بدسه واحد أو مجموعة من الخبثاء.

 

تلك عينة من التخريب المتعمد والذي يستخدم بكثافة في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي منابر صارت مصدراً للنقل منها حتى في وسائل الاعلام التقليدية مثل الإذاعة والصحافة والتلفزيون! اذاً ما نحن بصدده هو خواء المتلقي أو كثير من المتلقين لتلك الأخبار، أما الأكثر تشويهاً، فهي تلك الأفكار التي ترتبط برغبة أو إرادة إلهية ويصدقها كثيرون، وكمثال على ذلك القول إن الأسعار للسلع يحددها الله سبحانه تعالى عن ذلك، اعتماداً على نص منتزع من سياقه التاريخي والزمني، فيتجاهل القائل ما توصل اليه عقل الإنسان من فهم ميكانيزمات السوق والعرض والطلب والوفرة والندرة.

 

وفي مثال آخر نزول المطر والذي أصبحت له حسابات معروفة من الفلكيين، فلا يتردد البعض بالقول علناً في وسائل التواصل الاجتماعي إن "احتباس المطر عن أرض بعينها" هو بسبب المعاصي والمنكرات التي يقوم بها ذلك المجتمع فيحبس المطر عنه! ولكن عندما يواجه من يقول ذلك، وهل بلاد مثل أوروبا الشمالية أو بعض بلاد أفريقيا والتي لا يفارق المطر اجواءها "خالية من المعاصي" يحتار في الرد!

 

ما نحن بصدده هو التوظيف عن جهل أو عن قصد لبعض المقولات التي تبدو أو تُصنع على أنها حقيقة وهي أبعد من ذلك، وقد يُفهم السبب خلف ذلك التصنيع و"الفبركة" والتضليل لأسباب اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، إلا أن ما يتوجب علينا مناقشته هو سهولة بلع الطعم المزيف من البعض وهم في الغالب حاصلون على شيء من الخبرة الحياتية والتعليمية والعملية، بل ويجادلون في صحة الخبر وتأكيده وهو للعاقل خبر منزوع من سياقه ويتنافى مع العقل السليم؟ ذلك هو الأمر المُحيّر.

 

إن أردنا تفكيك ما نحن بصدده، فإن تصديق الخبر الزائف قد يجد هوى في قلب وعقل المتلقي أو ينسجم مع معتقداته السياسية أو حتى الدينية أو المعرفية، إلا أن ما يحيّر أن يصدق الخبر أشخاص من المفروض أنهم يتحلون بحكمة ودراية معقولة في شؤون الحياة. الانقسام في المجتمعات العربية واضح إلا في قليلها وهو أكثر من الاختلاف في وجهات النظر، هو تحيز غير صحي يشطر المجتمعات الى مربعات تقود في النهاية الى حرب أهلية باردة او ساخنة، وهو دليل مادي على فشل واضح في الدولة الوطنية الحديثة التي كتمت أفواه المجتمع وحاولت صب الجميع في بوتقة واحدة سرعان ما انفجرت، وما الصراع في السودان وفي لبنان وسوريا والعراق وليبيا وأخيراً تونس إلا من نتائج مسيرة طويلة للقولبة واحتكار الحكمة من دون تدريب على الأخذ والعطاء والمناقشة العقلية ومن دون زاد ثقافي يؤهل للانفتاح وبناء مؤسسات تقوم بتلك المهمة سوف تظل فئة منا متخندقة حول مقولات، إما خرافية أو طائفية أو حول مصالح ضيقة ترى شيطنة الآخر وتأليه الذات قاعدة ثابتة!

تعليقات

اكتب تعليقك