د. محمد الرميحي: المواطن السماعي!

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 414 مشاهدات 0


العنوان ليس لي، هو للسيد علاء الأسواني الكاتب المصري المعروف، في سلسلة محاضرات على اليوتيوب يتحدث في مواضيع تهم المواطن العربي. يرى السيد الأسواني أن كثراً من المواطنين والمواطنات العرب يبنون وجهة نظرهم في الكثير من القضايا على ما يسمعونه من ملخصات، ويضرب أمثلة عديدة منها القول: "إنه في مذكرات غولدا مائير وهي رئيسة وزراء إسرائيل في سبعينات القرن الماضي، قالت إن العرب سوف يهزمون إسرائيل اذا كان عدد من يصلي الفجر في الجوامع يماثل من يصلون الجمعة؟ وما لبث أن وصلتني رسالة على واتساب تقول نقلاً عن وزير خارجية أميركا الأسبق هنري كيسنجر أن أميركا تبحث عن خونة الوطن في الداخل وتقتلهم، وتبحث عن خونة في الخارج وتستخدمهم". وأمثلة كثيرة من هذه الأقوال كلها ملفقة، فلا غولدا مائير في مذكراتها قالت هذا الكلام ولا هنري كيسنجر، كما راج الحديث أن هيلاري كلينتون قالت: "نحن من خلقنا داعش" أو إنها قالت: "نحن من أوجدنا الربيع العربي"، وكل ذلك مختلق.

الأسواني كرجل مهتم بالتنوير يرى أن "تلك طريقة في التفكير علينا أن نهجرها" أي البحث عن ما يرضينا ونشره للكافة، على أنه قول صحيح. يستوقفني هنا ليس فقط موضوع الانسياق وراء "رغبات وتمنيات" ترضي الأهواء وليس لها علاقة بالواقع، ولكن بجانب ذلك، الاعتقاد أن كل ما يقوله الآخر "بخاصة في ما يرضي تمنياتنا" هو صحيح، والثاني أن هناك قاعدة اجتماعية تروج لهذا النوع من "الخزعبلات" وهي لا تدري أو لا تدرك أنها، "عقلاً"، غير واقعية، و"منهجاً"، غير موجودة. يرى الأسواني أنه "لو تغيرت طريقتنا في التفكير فإن كل شيء سوف يتغير"، وربما ذلك تبسيط وقد يكون مخلاً، لأن الفكرة الأساس هو تغير مناهج التعليم والإعلام في مجتمعاتنا وخلق ما أسميه "المناعة المعرفية" وهو مبدأ في مناهج تعليم مبنية على قاعدة التفكير وربما الصدمة في التفكير، وإعلام أيضاً مُعد لموضوعاته في شكل منهجي وعلمي. يرفد ذلك تربية منزلية معتمدة على النقاش و الإقناع لا الأوامر! فالطريق الى الخروج من هذا "المأزق الحضاري" ربما طويل ويحتاج الى: أولاً ايمان بالتغيير في التفكير وثانياً برنامج لهذا التغيير.

في حياتي الشخصية مثال ربما أذكره بعد أن مرت عليه سنوات طويلة، ذلك أننا في الدراسة الجامعية في القاهرة في ستينات القرن الماضي كان هناك أستاذ اجتماع مصري متخرج في بريطانيا، وجاء في الامتحان نصف السنوي، سؤال: علّق على ما يلي: "مصر هبة النيل"... أكب الطلاب على توصيف منافع نهر النيل لمصر ولحياتها، وكانت النتيجة صادمة، فقد نال الجميع صفراً في الإجابة، وشرح لنا الأستاذ بعد ذلك فلسفته، فقال لو بقينا على نهر النيل سوف نبقى في الزراعة وما حولها، ولكننا نحتاج إلى أن ننتقل الى المجتمع الصناعي! هذا الأمر ولأنه أحدث صدمة لدى الجميع بقيت في الذاكرة، فإن الأقوال المرسلة يتوجب التفكير فيها بشكل أدق وأعمق.

وإن كان الشيء بالشيء يُذكر، فقد قامت الدينا مؤخراً وأظنها لم تقعد حتى الساعة حول توقف الـ"فايسبوك" ومعه الواتساب و"انستغرام"، وحصلنا نحن الجمهور العام على كم هائل من التحليلات المختلفة في وسائل اعلامنا، وسمعنا عدداً كبيراً من المعلقين في الداخل والخارج. لكني لم ألحظ أن أياً ممن استمعت اليه أو قرأت له في الموضوع ربما عرف أو مرّ عليه كتاب نشرته سلسلة عالم المعرفة كانون الثاني (يناير) 2019 لـ"فرد كابلان" ومترجم بعنوان "المنطقة المعتمة" ... معاناة المؤلف في جمع المادة والتي شرحها في شكل مفصل، لافتة، فلم يترك المؤلف حجراً في أسرار هذا الفضاء في الولايات المتحدة إلا وقلبه، ومع ذلك يعترف أن ما قدمه للقرّاء هو فقط رأس جبل الجليد! الذي يشكل هذا العالم الأحادي الصفري. قراءة الكتاب تقدم نظرة واسعة لهذا العالم الخفي والمعارك التي تدور في الولايات المتحدة من أجل تطوير النظام الرقمي العالمي، وأيضاً من أجل حمايته، واللاعبون حوله من جماعات التدخل غير البريء "الهاكرز" وعصابات السرقة ومافيا المال وجماعات المصالح والدول، كثيرة ومتعاظمة، أصبحت الحرب بالأرقام حرباً حقيقية لم يعد النصر من نصيب من لديه ذخيرة أكثر، بل من يُسيطر على المعلومات.

يغوص الكاتب في تجربة الولايات المتحدة، وهي ربما التجربة الأعرض، ويشرح بالوثائق الصراع بين المدرسة القديمة في التفكير والمدرسة الحديثة في أوساط متخذي القرار الأميركي، وكان متخذ القرار يحتاج الى أزمة كبرى كي يسمح بتطوير تلك الأنظمة، مثل هجمات أيلول (سبتمبر) 2001 أو تفجير أوكلاهوما في نيسان (أبريل) 1995. يقول الكتاب إن لا بوش الأب ولا وزير دفاعة ديك تشيني قد تعاملا في حياتهم مع كومبيوتر!. لم تعد عملية سرقة بنك تحتاج الى حفر تحت الأرض أو أسلحة وأقنعة وسيارات سريعة كما شاهدت أجيال عدة تلك العمليات في السينما ... فقط يحتاج السارق الى كومبيوتر صغير ولوحة مفاتيح، فأي مقرصن (هاكر) في أي مكان في العالم يمكنه أن يدخل على أي نظام مالي او تشغيلي (محطات كهرباء، محطات نووية، معلومات موظفين واسرارهم المالية والصحية)... أي شيء يدار بأجهزة رقمية يمكن للمتدخل "شخص أو دولة" أن يسرق أو يعبث أو يدخل معلومات خاطئة يحمل دولاً على أن تتخذ قرارات سريعة وخاطئة مبنية على معلومات مدسوسة في النظام.

يروي الكتاب الصراع الطويل والمنهك بين مؤسسات الولايات المتحدة الرسمية والعسكرية والأمنية لملاحقة تلك التطورات والقادمة أساساً من الشركات الخاصة أو من هواة يطورون أنظمة قابلة للبيع باستخدام أصول متواضعة، كانوا يعملون من مكتب صغير او مرأب سيارة في البيت. لا اعتقد أن أياً من المعلقين الذين استمعت إليهم في موضوع "فايسبوك" قد اطلع على هذا الكتاب، وهذا هو الفرق بين التفكير "السماعي" والتفكير "المنهجي" الذي نفتقد!

تعليقات

اكتب تعليقك