د.محمد الرميحي: فقه السّياسة في الإسلام

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 937 مشاهدات 0


مع وصول "طالبان" الى السلطة في أفغانستان، وإعلانها قرب إقامة "الإمارة الإسلامية"، يتجدد النقاش في موضوع واسع هو علاقة الإسلام بالسياسة، وهل هي علاقة محددة ومعروفة تضاريسها، أم هي اجتهادات لها مساحة كبيرة من التجليات؟

 

الإشكالية التي تواجهنا اليوم ليست جديدة، فقد واجهت الفكر والممارسة العربيين منذ زمن طويل، وتجددت في فضائنا العربي مع تباشير ما عُرف بشكل غامض بـ"النهضة العربية الحديثة". منذ ذاك الوقت تقريباً، أي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفكرة "تجسير الفجوة" بين ما هو إسلام وما هو سياسة إسلامية هي الشغل الشاغل للكثير من المفكرين. اليوم لدينا كم من الكتب التي تناولت هذا الموضوع، وتجدد النقاش فيه بعد الثورة الإيرانية عام 1979، ولو أن إرهاصاته كانت قبل ذلك. لقد نظر الكثيرون في واقعنا، سواء العربي أم واقع الشعوب الإسلامية، ووجدوا أن هناك إيماناً شعبياً بدين الإسلام، وأنه جزء لا يتجزأ من تراث هذه الشعوب وتاريخها، وهناك توق الى الحداثة والتقدم ومسايرة الشعوب الأخرى في النهضة. فكانت محاولات تجاوز القطيعة بين علوم الشرع، من جهة، والعلوم الاجتماعية الحديثة، ومنها السياسية من جهة أخرى. لا أريد أن أسمي، ولكن القائمة طويلة من المسلمين غير العرب والعرب من المفكرين الذين كتبوا في الموضوع، منهم من حاول "التجسير" ومنهم من بقي في إطار التراث التقليدي. من التجربة التي مرت على الشعوب حتى الآن، نجد أن "التجسير والمواءمة" أخذ الطابع (المحلي) وتكيّف مع الثقافة السائدة. الخطورة هنا تكمن في مكانين: الأول أن كل تجربة تدّعي أنها هي الصحيحة والباقي مجرد "هرطقات"، وعليها واجب نشر تجربتها الخاصة على باقي المسلمين! والثاني أنها تأثرت بالفكر "القومي" أو "المحلي" الذي أصابها بشيء من العزلة.

 

حتى لا نضيع في التنظير، فلْنرَ كيف تصرّفت الحركات (الإسلامية) في بيئاتها المحلية. لنأخذ تجربة "حركة النهضة" في تونس، فقد واءمت تلك الحركة بين معطيات التاريخ والمسيرة الوطنية لتونس، فاعترفت بمساواة الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، كما قررت أن ترشح نساء على قائمتها الانتخابية من غير المحجبات، اعترافاً بأن الحجاب هو شكل اجتماعي وليس دينياً. في الخطوتين هناك حركات أخرى تنتمي الى فكرة "الإسلام السياسي" ترى في ذلك خروجاً عن الثوابت التي تؤمن بها كقواعد شرعية. في الحالة السودانية تدخلت السلطة المنبثقة من الإسلام السياسي حتى في ملابس المرأة، وجرّمت في قصة مشهورة إحدى المواطنات السودانيات لأنها لبست البنطلون وتشبهت بالرجال! في الحالتين التونسية والسودانية (كمثال) فشلت الحركتان في مكان آخر فشلاً ذريعاً، وهو تسيير المجتمع وإدارته لمصلحة المجموع.

 

نحن في عالم لا تهمه كثيراً شعارات حقوق الإنسان أو الحريات أو غيرها من المبادئ الليبرالية والإنسانية إن مارسها نظام على شعبه، فالكثير من تلك الأفكار هي شعارات، ما يهمه أكثر ألّا تعرّض مصالحه للخطر المباشر، إلا أن فكرة الإسلام السياسي (بعولمة تجربتها) تجرّها الى صدام بارد أو ساخن. ولو افتراضاً، لو لم تقم "القاعدة" بمهاجمة المدن الأميركية بذلك الشكل المثير، لما اهتم أحد كثيراً بحكم "طالبان" أو غيرها في أفغانستان! ما يواجه حركات الإسلام السياسي، وبخاصة التي وصلت الى الحكم، هو الفشل في إدارة الدولة من جهة، والجهد الضخم في (تصدير النموذج) الى الآخرين، كما تفعل إيران اليوم.

 

المثال الإيراني اليوم مهم لفهم ما نحن بصدده، هناك حكم لزمن طويل نسبياً (أربعون عاماً)، وهناك تطور في البحوث النووية والصاروخية، وهناك تراتبية عملية اسمها "المرشد المعصوم"، وهي تطوير لفكرة "الإخوان المسلمين" وهدف أيضاً لـ"طالبان"، ولكنّ هناك عجزاً واضحاً في إدارة اقتصاد الدولة وفي مواجهة المخاطر الأخرى كالفقر وتبعات جائحة كورونا. فمفهوم "المصالح المرسلة" الذي طوّر في سياق الممارسة الإسلامية السياسية القديمة انتفى أو يكاد لدى معظم تلك الحركات. 

 

على الجانب العربي تجارب في مصر وتونس وليبيا وسوريا وغيرها من البلاد اصطدمت بجدار الواقع، لأنها في الغالب جاءت بمثاليات ليست لها علاقة بذلك الواقع. التحدي الذي يواجه تجربة الإسلام السياسي ليس بالقليل، وهو في مكان ما متعارض ولا يلتقي بين اجتراح قوانين تساير مطالب الناس والعصر، وبين الحديث العام عن تطبيق الشريعة! الكثير من المسلمين، خارج قوى الإسلام السياسي، لا يشعرون بتناقض بين الاثنين، إلا أن حركة الإسلام السياسي تشيطن شيطنة مفرطة أدوات الحداثة وتنظيماتها. تجاوز تلك القطيعة بين الاثنين لا يبدو ممكناً في الحالة الأفغانية، مع كل ما بدا من طبعة "طالبان" 2021 من تصريحات، فمفاهيم الشريعة عندها ما زالت متمسكة بالتفسيرات التي تركها لها الأولون في الكتب القديمة، وهي تسير بالضرورة على منهجهم (في الشكل وفي الموضوع) مع شيء من النَّفَس القومي المحلي، فلا تستطيع والأمر ذاك أن تقدم نموذجاً في المواءمة يمكن أن يقال إنه ناجح كما يتوهم بعض المتابعين للحوادث، بخاصة من العرب. ربما السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل يستطيع الحكم الجديد، إن استقر، على ضبط أرضه من أن تكون من جديد مكاناً لتطرف، ليس المحلي، ولكن العابر للأوطان؟ ذلك تحد ليس هيّناً، فأحد السيناريوات الممكنة أن تنجرف الحركة تحت ضغط الإكراهات الداخلية والخارجية لاستضافة أنصار يشاركونها الفكر ويتفوقون عليها في الطموحات التي هي إقامة الإمارة الإسلامية على كل أرض الإسلام، وهنا يدخل العالم من جديد في دوامة عنف لا قرار لها.

تعليقات

اكتب تعليقك