محمد الرميحي : القول أن الإرهاب في العالم «إسلامي» تعميم غير علمي وغير مبرر ومنقطع تاريخياً. وهو في حقيقته عابر للأديان والمذاهب والقوميات والمناطق وفي صلبه سياسي ممزوج بتجهيل

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 435 مشاهدات 0


«أنا اسمى صمويل».. رُفعت هذه اللافتة على رؤوس المتظاهرين والمتظاهرات في الأيام القليلة الماضية في فرنسا. وصمويل هو اسم الأستاذ الفرنسي الذي ذُبح على يد شاب شيشاني مهاجر مع أسرته، وتحدثت عن حادثة القتل وسائل إعلام كثيرة. المعلومات شحيحة في التفاصيل، عدا أن القاتل قُتل من قِبل الشرطة، أما كيف؟ ومتى؟ فذاك لم يظهر حتى الآن. المعروف أن الأستاذ كان يقوم بعمله، فالحديث للطلاب عن مساوئ التطرف هو مقرر من السلطات التعليمية، بعد موجة من القتل على خلفية التطرف «الإسلامي» والذي اجتاح فرنسا في السنوات الأخيرة.
جزء وازن من الحملة التعميمية سياسي، يتوجه إلى شقين: زيادة الكراهية للآخر، وهي موجة تجتاح بلداناً كثيرة، والآخر هو استفادة السياسيين من شد العصب «الوطني أو القومي» ليصبّ لصالح هذا الحزب أو ذاك في ظل تباطؤ اقتصادي وتدهور مستوى المعيشة لدى كثير من هذه الشعوب.
سفاح كرايستشريش الأسترالي برينتو تارنت، قبل مذبحة المسجدين في نيوزيلندا بيومين نشر بياناً على الإنترنت بأنه «قرر أن يأخذ موقفاً لضمان مستقبل شعبه»! وبعدها قتل 51 ضحية في 15 مارس (آذار) 2019 وأصاب 47 آخرين بجروح. لم يكن ذلك الرجل مسلماً كما لا يمكن بالتأكيد أن يقال إن فعله «إرهاب مسيحي»! تبين أن الرجل ومعاونيه الأربعة يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض وبسيادة المسيحية وتطهير أرضها من «الهراطقة» أصحاب الديانات الأخرى. بعد أشهر وقفت قريبة أحد الضحايا في المحكمة ونظرت إلى القاتل في قفص الاتهام وقالت بلغة واضحة «إني أسامحك»! تلك السيدة مسلمة!
في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1984 نُفذت عملية اغتيال في رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي، على يد أحد المتعصبين السيخ، وكان هو أحد حراسها، بسبب خلاف بين زعيم السيخ وقتها والحكومة الهندية، عندما اقتحمت قوات الحكومة الهندية مدينة أمريتسار وقُتل في الاشتباك زعيم السيخ سانت بيندرا، لم يكن أيٌّ من القاتل والمقتول هنا لا مسلماً ولا مسيحياً.
حركة «التاميل» في سيرلانكا في ثمانينات القرن الماضي هي التي ربما علَّمت العالم استخدام المفخخات البشرية لقتل الآخرين، قبل أن ينتشر مثل ذلك الفعل بين أتباع «القاعدة» أو «داعش» في السنوات الأخيرة، و«التاميل» ليسوا مسلمين ولا مسيحيين ولا سيخاً، هم في معظمهم من أصحاب الديانة الهندوسية. إحدى المنتسبات للحركة فخخت نفسها وقتلت في 21 مايو (أيار) 1991 رجيف غاندي «ابن أنديرا» وأصغر رؤساء الحكومات الهندية، على خلفية إرساله قوات سلام هندية إلى الجزيرة الواقعة جنوب الهند والتي شهدت وقتها حرباً أهلية ضروساً.
قد يأتي التعصب والإرهاب من الديانات وقد يأتي من السياسة. ففي الثمانينات نشأت إشكالية على كتاب «آيات شيطانية» لسلمان رشدي، ذلك الكشميري البريطاني. وقتها أفتى بعض المتعصبين بقتله، فنال شهرة وزادت مبيعات كتبه، وكل ما كُتب لم يكن لينال من الإسلام شيئاً، بل كانت الفتوى تتوسل حشد الجهلاء وزيادة منسوب التحشيد السياسي. على تلك الخلفية لا يجوز عقلاً أن نتحدث عن المسلمين بعمومهم وهم أكثر من مليار من البشر، بأنهم جميعاً «إرهابيون» أو أن الإرهاب في العالم «إسلامي». ذلك تعميم غير علمي وغير مبرر ومنقطع تاريخياً. الإرهاب في الحقيقة عابر للأديان والمذاهب والقوميات والمناطق وفي صلبه سياسي ممزوج بتجهيل. هذا لا يعني أنه ليست لدينا مشكلة. الواقع أن المسلمين ليسوا إرهابيين، ولكن في هذا الزمن والظروف بعضهم كذلك. تلك حقيقة علينا أن نواجهها بما نستطيع من صدق، وما تستحقه من اهتمام. الأصل في هذه المشكلة هو خلط ضبابي كثيف بين «الديني - المذهبي» وما هو سياسي، وهذا الإشكال يقع في منزلة «الغياب عن الصواب»، فهناك نصوص في التراث الإنساني تحثّ على «كره الآخر»، وهي اليوم تُجرَّد من مقاصدها التاريخية لتُلقى في أتون السياسة المحتدمة وتُوظَّف لمصالح تسعى إليها قيادات سياسية ترنو إلى الهيمنة والتوسع، تلك الخاصية تنسحب على الديانات السماوية والأرضية كما هو مُشاهَد في عالمنا الذي نعيش. غياب الصواب يدعونا إلى البحث عن الصواب، وهو تفكيك الخطاب وإعادة ترتيبه على قاعدتين عقلانيتين؛ الأولى هي أن «الكراهية ليست الإجابة عن مشكلات الحاضر»، والأخرى «إعادة النظر في النقل التلقائي من السلف وإقامة ميزان العقل» في توظيف النصوص لتلائم الحاضر، وقد كانت تلك الإشكالية بين النقل والعقل هي ما واجه ويواجه كل الحضارات الإنسانية، من الصينية القديمة مروراً باليونانية والرومانية وحتى الحضارة الحديثة. وحتى نحكّم القراءة العقلية علينا أن ننشد معرفة الواقع الذي نعيش.
اليوم نحن في الشرق الأوسط نواجَه بمجموعة من الظواهر المهيِّئة لعدم الاستقرار والمسهِّلة لاستخدام النصوص الدينية في غير سياقها، وهو المُفرز الحقيقي لما يعرِّفه البعض بالإرهاب الذي وصل إلى أن يستخدمه مسلمون ضد مسلمين! التعرف على تلك الظواهر تبدأ بالاعتراف بما يُعرف بـ«ضمور المواطنة» وضعف الحاكمية في فضائنا، أي وجود جماعات تحت الدولة، وأخرى عابرة لها، والاثنتان ترومان السلطة متوسلتين بالتراث.
انتشار «القوى والمنظمات خارج الدولة»، وبعضها مسلح كما هو موجود في اليمن والعراق ولبنان وليبيا وحتى أفغانستان، حاضنة طيعة لبذور الإرهاب من أجل الدفع بمشروعها السياسي، فهي تعمل خارج الدولة وبعيداً عن أي قيود قانونية أو أخلاقية تحدّ من شهيتها. وهناك قوى خارج الدولة غير مسلحة، هي قوى «هجينة»، أي بعض الدول تصنّفها إرهابية وخارجة على القانون، وبعض الدول تقوم بإفساح المجال لها ورعايتها واستخدامها لتحقيق أهدافها كما هي «قوى الإسلام السياسي». الظاهرتان هما سبب وفي الوقت نفسه نتيجة لهشاشة الدولة الوطنية وفشلها في إقامة مجتمع مواطنين إخوة في الوطن لا أعداء في الدين «أو المذهب». الظاهرتان تتخذان الشعارات الدينية لتفريخ الفكر ذي المنحى الإكراهي والقائم على القطيعة ونبذ الآخر. عدد من الدول يستخدم «قوى ما تحت الدولة وما فوق الدولة» لتوسيع نفوذها القومي. والأمثلة الواضحة: استخدام الدولة التركية الحالية قوى متشددة تصنَّف إرهابية في كلٍّ من ليبيا وأذربيجان، والدولة الإيرانية في لبنان والعراق واليمن! كلها تعتمد مقولات المنقول في ثياب جديدة لتسهيل مشروعها.
عالمنا إذاً يواجَه بظاهرة لن تختفي إن لم يكن هناك تعاون دولي بشقين؛ الأول الوقوف أمام القوى والدول التي ترعى تلك الجماعات والمساعدة على إقامة الدولة الوطنية المدنية العادلة، والآخر إعادة صياغة فكرية لتخليص الفكر من الحمولات الثقافية السلبية والنقل الأعمى.
آخر الكلام:
الحلول الوسطى في السياسة لا تخلق أبطالاً ولكنها بالتأكيد تبني أوطاناً.

تعليقات

اكتب تعليقك