عشر سنوات من غياب عاشق الكويت ... غازي القصيبي

محليات وبرلمان

جريدة الآن تعيد نشر مقالة تاريخية لزايد الزيد يروي فيها تفاصيل لم تنشر عن علاقة القصيبي بالكويت

الآن 2740 مشاهدات 0


 
هذه واحدة من أجمل وأعمق وأصدق المقالات التي كتبت  في الصحافة الكويتية خلال العقد الأخير ..
مقالة الكاتب الأستاذ زايد الزيد عن ذكرياته مع الشاعر والأديب الكبير دكتور غازي القصيبي ، والتي نشرها في جريدة النهار حيث كان يكتب  عند وفاة القصيبي،  والتي تحل اليوم 15 أغسطس الذكرى  العاشرة لها .
وإذا  كان القصيبي قد أبدع كثيرا في كتابه المشرق ( الوزير  المرافق ) حيث دون تفاصيل  مهمة حين كان وزيرا عن مرافقته لكثير  من زعماء الدول  عند زيارتهم للسعودية ، فقد أبدع زايد الزيد كثيرا حين رصد في جزء من هذه المقالة تفاصيل الرحلة الأخيرة للقصيبي للكويت ، وما تضمنته من لقاءات وأحداث مهمة نقلها لنا وللتاريخ بحس الصحفي المبدع .
وفي الذكرى  الحزينة لوفاة القصيبي  تعيد جريدة  نشر هذه المقالة التاريخية الثمينة  احتفاءًا بعاشق الكويت وأحد أهم من دافع عنها المرحوم -بإذن الله - الشاعر والأديب  والسياسي المحنك  دكتور غازي القصيبي .
فيما يلي نص المقالة كما نشرت في جريدة النهار  الكويتية عدد يوم 3 سبتمبر  2010 .



محطات عشق وشجاعة ومرح.. في حياة مبدع كبير


كتب  زايد الزيد

بلغني الخبر المحزن، خبر وفاة الدكتور غازي القصيبي، وأنا اقضي اجازتي الصيفية مع أسرتي في بيتي بجبل لبنان، وكنت قررت هذا العام أن أغلق هاتفي الذي يحمل خطي الكويتي منذ غادرت الكويت بداية شهر يوليو، حتى استمتع بالاجازة، وحتى لاأزعج أسرتي بمنغصات العمل الصحافي التي لاتنقطع، وأرسلت رقم خط هاتفي اللبناني لعدد محدود من الأهل والأصدقاء وزملاء العمل، للتواصل في حال الضرورة القصوى، وقد كان.. وفعلا مرت الاجازة الطويلة، التي بلغت خمسين يوما، بلا منغصات، لولا خمسها الأخير، الذي شهد وفاة أستاذي العزيز الدكتور أحمد البغدادي، ووفاة الدكتور القصيبي. ففي يوم وفاة الراحل القصيبي، تلقيت الخبر من نشرة الظهيرة في أخبار «العربية، فانتابتني مشاعر حزن لرحيل عملاق لايتكرر، وطافت في مخيلتي - وأنا متسمر أمام شاشة التلفزيون - محطات متنوعة من حياة الرجل أعرفها تماما، ولم أشعر بحالة شرودي، الا بعد أن هزتني ابنتي الصغيرة «صبا، ذات الأعوام العشرة، متسائلة: «يبه، شفيك متضايق؟! منو هذا؟! انت اتعرفه؟!!

صور متلاحقة.. وذكريات منهمرة

ظلت صور الراحل تلاحقني، في صحوي ومنامي، لمدة يومين، لم أكن أفكر فيها بالكتابة بتاتا، وبعد انقضاء يومين من وفاته، أضحت الصور والأحداث التي خبرتها عن الراحل، تتداعى في رأسي بشكل مكثف، حيث تموج وتروج، وقررت حينها الكتابة، ربما لأتخلص من هذه الحالة التي ارتبكت فيها أحوالي، وفعلا بدأتها، النية كانت مقالا بحجم المقالات التي اعتدت كتابتها، فاذا بالذكريات تنهمر، والصفحة أصبحت صفحات..

المجلد المسعف

لكن، واجهتني في الكتابة مشكلة، فأنا اعتدت، منذ سنوات مضت، ليست ببعيدة جدا، أن أدون أدق التفاصيل في الأحداث المهمة التي تمرّ بي أو أمرّ بها، أدوّنها مباشرة بعد الحدث، في مجلد كبير، حالما أعود للبيت، وفي السفر حيث لا أحمله، كنت أدوّن في وريقات، وفي البداية، كنت أفرّغ هذه الوريقات في المجلد، وبعد تقدم العمر وزيادة حيز الكسل في حياتي، أصبحت أضع هذه الوريقات بين ثنايا صفحات المجلد!! ومادوّنته عن غازي القصيبي، منذ سنوات خلت، ليس موجودا معي في لبنان، فمحلّه المجلد في الكويت، وموعد رجوعنا سيحل بعد خمسة أيام (عشرين من الشهر الجاري)، فقمت بكتابة الجزء الأكبر من هذه المحطات في لبنان، وبعد رجوعي للكويت، طعّمتها بالتفاصيل الدقيقة التي استخرجتها من المجلد، وهذا ما ساهم أيضا في أن أتأخر في الكتابة، ولأعترف هنا، بأن المجلد أسعفني كثيرا ليس فقط بتسجيل الأحداث بدقة، بل أنه صحح لي كثيرا مما كتبت بداية..

بالحب ولأجله.. جابر الأحمد يكسر البروتوكول!

و بوفاة الشاعر، الأديب، المفكر، ورجل الدولة، والانسان الدكتور غازي القصيبي، أزعم أن الكويت فقدت واحدا من أكثر محبيها في هذا العالم، بل لعلي لا أبالغ ان قلت أن علاقة القصيبي بالكويت، هي قصة حب جمعت بين الاثنين، بلغت درجة التيم!!
فكل من يعرف القصيبي يعرف هذه الحقيقة، التي لامراء فيها، فهو من شدة تعلقه بالكويت، يعرف أدق تفاصيلها، ويتابع أحداثها كأنه يعيش فيها، وبالطبع تربطه بقادتها وأهلها وسياسييها ومثقفيها وأدبائها أمتن الروابط وأشدّها، وليس أدل على هذا، سوى تخطي سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد (رحمه الله) لبروتوكول الاستقبال، وكسره في حالة نادرة، في مناسبة تكريم الراحل القصيبي في العام 1992، حينما تقدم سموه من مكان وقوفه خطوات الى الأمام، بلغت مسافتها سبعة أمتار أو تزيد، بمجرد دخول القصيبي القاعة، ليلتقي الراحلان في منتصفها! وبعد تبادل التحية بين الرجلين، أمسك سموه بيد القصيبي، وعاد به الى الزاوية التي تحرك منها سموه لملاقاته، والتي اعتاد أن يجلس فيها مع ضيوفه، ليقلد الراحل وسام الكويت ذا الوشاح من الدرجة الممتازة، الذي لايمنح عادة الا للزعامات الكبيرة التي أسدت خدمات عظيمة للكويت من رؤساء دول أورؤساء حكومات! فاذا كان هذا هو التقدير الذي حظي به القصيبي من رمز الكويت وقائدها، فكيف هي اذا مكانته عند أهلها وعامتها؟!

هذا مافعله الوشاة بينه وبين الملك فهد

كنا في مرحلة ما قبل الغزو، كمجموعة من الأصدقاء، تحفّنا هموم عامة وسياسية مشتركة، وكان الشعر أيضا جزء من اهتماماتنا، وحاضر في يومياتنا، وكنا نعرف القليل عن هذا الرجل «المختلف والمثير للجدل، فكنا نعرف أنه صاحب قصيدة «لورا التي شدا بها المطرب الفذ محمد عبده في بداية الثمانينات، وكان يطرب لها كل مجايلينا، وكنا أيضا نتداول باعجاب كبير قصيدته الرائعة: «رسالة المتنبي الأخيرة الى سيف الدولة «(زودنا بها الأخ والصديق الشاعر نشمي مهنا، الذي كان ولايزال، لاتفوته فائتة من أخبار الشعر والشعراء،.. ونتاجاتهم!!)، وهي القصيدة التي وجهها القصيبي للملك فهد - رحمهما الله بعد أن لعب الوشاة بينهما لعبتهم، وتسببوا في افساد العلاقة المميزة التي كانت تجمع الرجلين، (من المفارقات أن كلا الشاعرين المتنبي والقصيبي توفيا في شهر رمضان)! وفي مطلع هذه القصيدة يقول القصيبي:

بيني وبينك ألف واش ينعب
فعلامَ أسهب في الغناء وأطنبُ
صوتي يضيع ولاتحس برجعه
ولقد عهدتك حين أنشد تطربُ
وأراك مابين الجموع فلا أرى
تلك البشاشة في الملامح تعشبُ


ثم يعلن القصيبي استسلامه أمام الوشاة، لأنه لا يقوى على مجاراة دناءتهم، فيقول:
قل للوشاة أتيت أرفع رايتي البيضاء
فاسعوا في أديمي واضربوا
هذي المعارك لست أحسن خوضها
من ذا يحارب والغريم الثعلبُ

ويختم القصيبي قصيدته في العتاب فيقول:
ستقال فيك قصائد مأجورة
فالمادحون الجائعون تأهبوا
دعوى الوداد تجول فوق شفاههم
أما القلوب فجال فيها أشعبُ
لا يستوي قلم يباع ويشترى
ويراعه بدم المحاجر تكتبُ
وحينما قلنا أن القصيبي رجل «مختلف ومثير للجدل، فهو كذلك، فلقد بلغت به الجرأة أن يقوم بنشر قصيدته تلك في احدى الصحف المحلية في المملكة (أظنها جريدة الجزيرة)، فأحدثت حينها زلزالا مدويا في أوساط السلطة في الرياض.

أين كانت تذهب رواتب القصيبي ومخصصاته من الدولة؟


والى جانب معرفة «مجموعتنا بالقصيبي في تلك الفترة - شاعرا، عرفناه أيضا من خلال القراءات، وحديث الأصدقاء السعوديين، مسؤولا اداريا ناجحا، ورجل دولة فذ، تقلد في سن مبكرة من عمره، مناصب ادراية وسياسية متعددة في الدولة، وحقق فيها - ومن خلالها - نجاحا باهرا، بدءا من عمادة كلية العلوم الادارية في جامعة الملك سعود، فادارة هيئة السكك الحديدية، فوزارة الصناعة، ثم وزارة الصحة (هو من مواليد 1940، والمناصب السابقة تولاها في الفترة من 1971 وحتى 1984)..
ولأن القصيبي من طراز «مختلف، فانه آثر ألا يتسلم أجرا نظير عمله في الحكومة، فمنذ أن خصص له أول راتب حكومي في حياته في العام 1971، وحتى وفاته (أي نحو أربعين عاما)، لم يتسلم من كل هذا ريالا واحدا، ولقد تسرب لاحقا سر هذا الأمر بعد سنوات! فاكتشف الناس أن القصيبي كان يتبرع برواتبه وكامل المخصصات المالية الممنوحة له من الدولة، الى الجمعيات الخيرية، وتحديدا جمعيات رعاية المرضى والمعاقين منها، عبر تحويل مصرفي شهري، امتد معه طيلة تلك السنين!

تخلى عن التجارة من أجل خدمة الدولة

ولأن القصيبي رجل «مختلف دائما، فالجميع كان يعلم أنه لم يجمع بين السلطة والتجارة، بالرغم من تسلمه للمناصب الرفيعة، في عز مرحلة الطفرة النفطية، التي شهدت ولادة الفوائض المالية الهائلة، ونعمت بها كل الدول النفطية، لأول مرة في تاريخها، وبالرغم أيضا من كونه سليل أسرة تجارية عريقة، وهو الأمر الذي كان سيسهّل عليه، فرص الاثراء كثيرا، لو أراد اقتناصها من وراء السلطة التي كانت بين يديه، ولقد عمل «المتضررون من القرارات الصارمة للقصيبي - التي اتخذها في مختلف مواقع المسؤولية التي مر بها، ولم يكن يكسرها لكائن من كان - جاهدين في البحث عن أدنى استفادة للرجل من وراء السلطة، طوال العقود الأربعة التي قضاها في خدمة الدولة، الا أن «جهودهم كانت تخيّب ظنهم على الدوام، فالراحل قرر ترك العمل التجاري مذ وطأت قدماه عتبات العمل الحكومي، فلم يتعاط التجارة أبدا منذ ذلك الحين وحتى وفاته، وكان يقول للمقربين منه حينما يعاتبونه على ضياع الفرص التجارية العملاقة التي كان بامكانه ابتلاعها بسهولة، كان يقول لهم: أن نصيبي مما تدره علي تجارة عائلتي من أموال، تكفيني أن أعيش وعائلتي الصغيرة حياة هانئة، فليست غايتي في الحياة تكديس الأموال!!

الكويت «في عين العاصفة والتنبؤ المبكر!

في الأيام الأولى للغزو، انبرى القصيبي، من خلال زاويته الصحافية الشهيرة «في عين العاصفة في الزميلة اللندنية «الشرق الأوسط والتي كانت تحتل يسار صفحتها الثالثة، للدفاع عن الحق الكويتي بكل قوة، فلقد وظّف كل امكاناته الذهنية والتحليلية والسياسية، لصياغة أقوى الحجج في مقارعة قوى الباطل المتمثلة في صدام حسين ونظامه، وكل من سانده من الدول العربية التي تنكرت للحق، ولمواقف الكويت والمملكة، وعطاءاتهما غير المحدودة لتلك الدول ناكرة الجميل، وكان أيضا لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولكافة القوى الفلسطينية الجاحدة، نصيب من هذا الهجوم الكاسح الذي تبناه القصيبي بكل جدارة، وخلال تلك الفترة وطيلة أشهرالغزو السبعة، لم يكل القصيبي أو يمل، من مواصلة كتابة مقاله اليومي هذا، فهو سيّد الكلمات بلا منازع: كتابة وحديثا، فكان يتابع فيه، تبعات عملية الغزو، والتحضير لعمليات حرب التحرير، ويواكبها أولا بأول، في التحليل والاستنتاج كخبير سياسي واستراتيجي مميز وكبير، كما أنه في الأيام الأولى للغزو، وتحديدا في عشرينات شهر أغسطس، أي قبل اتخاذ مجلس الأمن قرار تحرير الكويت بالقوة العسكرية بأربعة أشهرتقريبا، أنشد قصيدة «أقسمت ياكويت التي تنبأ من خلالها بعودة الكويت الى أهلها، ودحر الغزاة، فقال:
ياكويت/ أقسمت يا كويت/ برب هذا البيت
سترجعين من خنادق الظلام/ لؤلؤة رائعة/ كروعة السلام
أقسمت يا كويت/ برب هذا البيت/ سترجعين من بنادق الغزاة
أغنية رائعة/ كروعة الحياة
***
أقسمت يا كويت/ برب هذا البيت/ سترجعين من جحافل التتار
حمامة رائعة/ كروعة النهار
***
كويت! يا كويت!/ ياوردة صغيرة/ قد صدمت بعطرها صدام
وهزت بعطرها/ الغدر والجحود والاجرام

قصة رسالة شاب مشرد طارت من «حائل الى «المنامة!

 
في بداية شهر اكتوبر 1990، أي بعد مرور نحو شهرين من الغزو، كتبت للقصيبي من «حائل حيث كنا نسكن، رسالة ضمنتها عميق شكري وتقديري لمواقفه الصلبة في مساندتنا في الحق، من شدة اعجابي وتعلقي بما يسطّره «في عين العاصفة، وطيّرتها، من خلال البريد العادي، الى عنوان عمله في البحرين، حيث كان سفيرا للمملكة فيها، ووضعت عليها العنوان البريدي للأخ القريب والصديق سعود عبدالعزيز القنون، ولم تكد تمر عشرة أيام، حتى يتصل بي «أبو طلال، يبلغني مندهشا، أن بريده يحمل رسالة لي من القصيبي، جئت ل أبي طلال مسرعا في معرضه بوسط سوق «برزان الذي يتربع بدوره وسط مدينة «حائل، سلّمت، فناولني الرسالة فورا، فتحتها بشغف، ولم أصدق عيني، كما لم يصدق الأمر «أبا طلال والأصدقاء الموجودون في المعرض، فالرسالة مكتوبة بخط يده، وممهورة بامضائه! هل يعقل هذا؟! هل لدى سعادة السفير القصيبي، وهو في خضم أصعب مرحلة تمر بها بلاده، متسع من الوقت، ليرد على مواطن كويتي مشرد لايعرفه، في رسالة ملؤها الثقة، والايمان بعودة الحق لأصحابه، والشكر على ما ورد في الرسالة من مشاعر طيبة تجاهه؟! ألم يكن باستطاعته، أن يكلّف سكرتاريته، باعداد ردود شكر تقليدية مقتضبة، خالية من أية روح، ومطبوعة بخط جميل وعلى ورق فاخر وأنيق، وجاهزة لتوقيعه فقط، كما يفعل عادة، السفراء وكبار المسؤولين؟! بالطبع، بمقدوره أن يفعل ذلك، لكنه القصيبي «المختلف دائما!
عموما ظلت الرسالة قابعة في جيبي في تلك الأيام، تصاحبني أينما ذهبت، وكأنها زوّادة تمدني بالأمل بتحرير بلدي من جحافل الطاغية! وحينما قررت في شهر نوفمبر، التّطوع مع قوات الحرس الوطني الكويتي المعسكرة في «الدمام، ودّعت الأهل، وغادرت «حائل مسافرا الى الرياض، لأودع «نشمي، وسلّمته رسالة القصيبي، حتى لاتضيع مني، في مكان لم أألفه من قبل، وأجهل طبيعته، ولاتزال الرسالة عند «أبي سلطان حتى هذه اللحظة، فهو يرفض أن يسلمني اياها كلما طلبتها منه!!

أحمد الفهد والمبعوث الخاص للقصيبي

في العام 2002، وفي اطار تحضيراتنا، في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، لمهرجان القرين الثقافي التاسع (يناير 2003)، عقدنا أحد اجتماعات اللجنة العليا للمهرجان، وكان مخصصا لاختيار شخصية مهرجان القرين لذاك العام، فتباحث الزملاء أعضاء اللجنة، في عدد من أسماء شخصيات عربية وخليجية لترشيح احداها لهذا الغرض، فقمت باقتراح اسم الدكتور غازي القصيبي، ليكون شخصية مهرجان القرين الثقافي التاسع، وقد حظي المقترح بموافقة الجميع، نظرا للمكانة الرفيعة التي يحتلها في قلوب جميع الكويتيين، ورفعنا قرار اللجنة العليا لرئيس المجلس آنذاك، وزير الاعلام الشيخ أحمد الفهد، فاعتمده، وأصدر قراراً وزاريا بتكليفي السفر الى الرياض، لتسليم القصيبي دعوة لحضور الاحتفالية المخصصة لتكريمه، وقد كان..

ذكرى لقاء سريع وحميم في وزارة المياه

حينما استقبلني في مكتبه بمبنى وزارة المياه، الكائن في وسط الرياض، مقابل فندق الخزامى، في تمام الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر اليوم قبل الآخير من ذلك العام (30 ديسمبر 2002) وبعد تسليمه الدعوة، أعاد علي ماسبق أن قاله لي بالهاتف، حينما اتصلت به قبل السفر اليه بأيام، لأبلغه تكليفي رسميا للحضور الى الرياض لتسليمه الدعوة شخصيا، حيث قال: «كان بامكانكم ارسال الدعوة عبر البريد أو حتى بالفاكس، ولاداعي لهذا التكلف والعناء فأجبته في المرتين: «أن تكليف وزير اعلام حكومة دولة الكويت بتسليمك الدعوة شخصيا، عبر مبعوث خاص، يأتي اليك في بلدك حاملا الدعوة، انما يعكس حرص القيادة السياسية للدولة على اظهار جزء من الوفاء الذي تستحقه، جراء المواقف المخلصة التي غمرت بها الكويت أثناء محنتها، فظهرت على الرجل مزيج من علامات خجل وحبور وتواضع، من دون أدنى تكلّف أو تصنع، ثم أطلعته على برنامج الاحتفالية، وكافة المواعيد المرتبطة بها، وكان دقيقا في استفساراته وملاحظاته بشأن تفاصيل البرنامج، الذي استحسنه في النهاية، بعد أن علّق على كل جزئية فيه..


علاقة بالقلم لاتنقطع إلا وقت النوم

بعدها شعرت أن الجانب الرسمي من اللقاء قد انتهى، فرويت له قصة رسالتي التي طارت له من «حائل الى «المنامة، وردّه عليها، ففوجيء بالقصة وضحك كثيرا، ولم يتذكرها بالطبع

وبادرني بالقول: «انظر الى الموضوع من زاوية أخرى، انظر للقدر، أنت كتبت ما كتبت، وكنت هنا في هذا البلد، رسالة شكر لسفيره في بلد آخر، فأنت كنت هنا وأنا كنت في الخارج، وكنت أنت شابا حائرا لاتعرف مصيرك أو مآل وطنك، وتدور الأيام، لتأتي أنت من بلدك المحرر، للبلد المضيف (حينما كنت تحل فيه)، وأنا الآن (هنا) في غير الموقع الذي كنت أنا فيه، لتنقل رسالة (شكر أيضا)، ولكنها رسالة رسمية وليست شخصية! ثم أردف قائلا: «شفت الأقدار وتصاريفها؟

وحينما أبديت له استغرابي من كتابته للرد بنفسه وبخط يده على رسالة شاب صغير مشرد عن وطنه، رغم مشاغله في العمل، ورغم تزاحم كتاباته المتنوعة في الشعر والرواية والفكر، قال: لم الاستغراب؟! فعلاقتي بالقلم علاقة حميمية لاتنفك أبدا، وهي لاتنقطع الا بالنوم، فحتى في الأكل فانني أستعين أحيانا بالقلم، حينما تخطر لي فكرة، أو أتابع عمل ما، فالقلم موجود دائما على المائدة! أما موضوع الرسائل، فلا تستغرب أيضا، فأنا أرد على كل الرسائل التي تردني بنفسي، سواء كانت شخصية أو رسمية، الفارق الوحيد، أن في الأولى أكتبها بخط يدي وأرسلها كما هي، أما الثانية فأكتبها أيضا بخط يدي، ولكن هناك من يتولى طباعتها من المساعدين!! فذكرت له بأنني لازلت أحتفظ بالرسالة، وهي في عهدة صديق شاعر!

«شخبار المشاغبين وجريدتهم؟!

وبخفة، نقل الحديث الى موضع آخر، فقال: «علمت من صديق كويتي أنك مدير تحرير جريدة المشاغبين كما أسميها (يقصد الطليعة)، فكيف حال الدكتور أحمد الخطيب وبقية زملائه المشاغبين؟ طمأنته على صحة «المشاغبين، ودردشنا في مواضيع مختلفة، وأنهيت اللقاء لأنني أعرف أنه انسان عملي ومنظم، ولا أود أن أطيل عليه، على الرغم من متعتي الشديدة بجو اللقاء وحميميته، فوجيء بقراري في المغادرة، وقال أنني وضعت الموعد في نهاية يوم العمل وبعد انتهائه، حتى «أسولف أطول مدة ممكنة مع شخص كويتي! ومع ذلك أصررت على المغادرة، فقال: لا بأس، على راحتك، لكن نحن أيضا سنلتقي الليلة على العشاء عندي في المنزل، فاعتذرت منه، فرحلتي كانت بعد ساعات قليلة، فقال: «يا أخي لاحق على الكويت، خلنا نتعشى الليلة مع بعض، واحنا ندبر تغيير الحجز اليوم ونخليه بكره، اعتذرت أيضا، فقال: ماكو فايدة، أنت تنتمي للمشاغبين، والعناد من أبرز صفاتكم.. ضحكنا، وودّعني بكل تواضع وأوصلني حتى مكان المصعد، رغم اصراري عليه عدم مغادرته المكتب..

تقرر أن تكون احتفالية تكريم القصيبي على مدى اليومين 21 و22 يناير 2003، وقبل وصول الراحل الى الكويت بأسبوع تقريبا، اتصل بي مدير مكتبه ليبلغني أن الدكتور قرر أن يمدّد اجازته في الكويت، ويقضي فيها أيضا الأيام الأربعة التالية ليومي الاحتفالية، فمنذ أن شاع خبر التكريم، ودعوات أصدقائه في الكويت لم تنقطع، فانهالت عليه من كل صوب، فقرر أن يمدد فترة اقامته بالكويت حتي يرضي أكبر قدر من أحبته، قدر الامكان..

وصل القصيبي البلاد في 20 يناير 2003، وما أن حطت الطائرة الخاصة التي تقله ووفده المرافق، أرض القاعة الأميرية في المطار، حتى أدهشت المفاجأة كثير من المستقبلين، فحينما نزل القصيبي من على سلم الطائرة، فوجئ الكثيرون بحجم الوفد الذي يرافقه! فلقد كان عدد أفراد وفده المرافق: شخصان اثنان، فقط لاغير! فهل يتصور أحد أن شخصية بحجم القصيبي كوزير ورجل دولة، لايرافقه في مهمة رسمية، سوى سكرتيره الشخصي، ومرافق آخر غير رسمي هو ابن شقيقه «فواز القصيبي، الذي هو في الوقت ذاته زوج ابنته «يارا؟! على العموم، تم تكليفي بمرافقة ضيف الكويت الكبير، وما أن وصلنا الى مقر اقامته في فندق الشيراتون، حتى طلب مني الراحل أن أحضر ورقة وقلماً، فجئت بالمطلوب، وجلست بجانبه، فأعطاني ورقة فيها لايقل عن مئتي اسم لشخصيات كويتية بعضها أصدقاؤه وبعضها الآخر شخصيات عامة من شيوخ ووزراء ونواب وتجار وأدباء واعلاميين، فقال: أحتاج مساعدتك في تقليص ودمج هذه الدعوات وحصرها في أيام الاقامة الستة، وهذه الدعوات تلقيتها من الأحبة والأصدقاء وأنا في الرياض، فعسى الله يعينني ويعينك على الدعوات التي سنتلقاها هنا في الكويت! وأكمل: سنضع جدولا أوليا، ثم نراجعه في اليوم مرتين للتعديلات الطارئة!!

دعوات رسمية وأخرى خاصة

باشرت فورا القيام بالمهمة، وبالطبع كانت أولى الزيارات التي وضعناها في الجدول هي تلك الزيارات الرسمية التي تشرف فيها الضيف بمقابلة صاحب السمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، وسمو الأمير الشيخ صباح الأحمد حينما كان رئيسا لمجلس الوزراء، وزيارة جاسم الخرافي رئيس مجلس الأمة، وكان قد أوصاني أيضا بتلبية ثلاث من الدعوات باعتبارها رسمية، وأنه يجب وضعها في الجدول من دون تغيير، فقال: سنلبي الدعوة الأولى وهي دعوة عشاء وزير الاعلام الشيخ أحمد الفهد كونه رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، والثانية دعوة وزير الكهرباء والماء طلال العيار (رحمه الله) لأنه نظيري في العمل، أما الثالثة فهي دعوة غداء السفير السعودي، أما دعوات الأصدقاء فأرجو حاليا تثبيت دعوة عشاء الدكتور محمد الرميحي، ودعوة عشاء الصديق عبدالكريم حجاج (من أصدقاء الراحل، وهو سعودي مقيم في الكويت، توفي رحمه الله في العام 2007) أما بقية دعوات العشاء والغداء من المعارف والاصدقاء فسنحاول دمجها، وأضاف: لقد وضعت اسمك ورقم هاتفك كمسؤول عن تنسيق المواعيد والدعوات، وأضاف بكل تواضع واستحياء: «ماعليه تحملني وتحملهم، أجبته فورا: الساعة المباركة يادكتور، فأنت ضيفنا، وهذا أصلا من صلب عملي..

والحقيقة أنني لم أكن اعلم بأنني تورطت في مسألة «عويصة، لم أحسب لها حسابا على الاطلاق، فلقد انهالت الاتصالات علي من شخصيات من معارف الراحل، أعرف قليلهم، وأسمع بالكثير منهم، كلهم يريدون استضافة الدكتور في منازلهم، اما على غداء أو على عشاء، وحينما كنت أرد عليهم بالقول: بأن جدول الزيارات والدعوات مزدحم ولا يسمح بالمزيد ولكننا سنحاول، فانهم كانوا يغضبون، ومعظمهم كان يرد بالقول «يامعوّد ضبطنا، يقولون انت اللي ماسك جدول القصيبي! وكنت أبلّغ الراحل أولا بأول بأسماء المتصلين، وحينما يوافق على دعوة أحدهم نراجع الجدول ونحشر اسمه من بين المواعيد المقررة سلفا، الى أن وصلت بنا الحال أن الفترة مابين الساعة التاسعة صباحا وحتى الساعة الثانية ظهرا من كل يوم تستوعب خمس الى ست زيارات، ومثلها كانت في الفترة المسائية التي نبدأ الانطلاق فيها من الساعة الرابعة عصرا وحتى الساعة التاسعة والنصف مساء، وكان يطلب مني أن أؤكد على أصحاب هذه الدعوات الاكتفاء فقط بتقديم الشاي والقهوة وعدم التكلف بأي شيء آخر من الأطعمة، ومع ذلك فان الداعين لا يلتفتون الى هذا الطلب، نظرا للتقدير الكبير الذي يحظى به الراحل عند أصدقائه ومحبيه..
حليمة بولند.. وإلا فلا!!
في حفل عشاء الشيخ أحمد الفهد، وعلى مائدة الطعام، التفت «بو فهد ناحية ضيفنا الكبير وقال له: «لي طلب عندك يادكتور، أرجو أن توافق على أن نجري معك لقاء شاملاً يكون مكسبا لتلفزيون الكويت، فما كان من القصيبي الا أن يرد فورا: «على الرحب والسعة يا شيخ، ماعندي مانع أبدا، لكن عندي شرط واحد فقط فرد عليه «بوفهد: «نلبي شرطك يادكتور، آمر..، فقال القصيبي: «شرطي أن من يجري اللقاء معي المقدمة حليمة بولند، وما أن انتهى القصيبي من القاء جملته الأخيرة على مسامع الحضور، حتى انفجرت القاعة بالضحك الهستيري، والغريب في الأمر أن جميع من كان في القاعة، اعتقد بأن ماحصل مجرد مزحة، وأنا كنت أولهم..

«أبي أمي.. أبي أبوي»

ولذلك عندما ذهبنا الى جناحه بعد أن انتهينا من حفل العشاء، وبعد أن راجعت معه جدول أنشطة الغد، قلت له: ان مسؤولي التلفزيون سألوني بعد العشاء عن الموعد المناسب لتصوير اللقاء، ومن من المقدمين تفضل يادكتور أن يقابلك؟ فقال: هل يعتقدون أني كنت أمزح حينما اشترطت حليمة بولند لتجري اللقاء معي؟ أجبته: وأنا يادكتور لازلت اعتقد انك غير جاد في طلبك هذا! فقال: لماذا؟ قلت: هي مذيعة مبتدئة، وامكاناتها في التحاور متواضعة جدا، فرد قائلا: يازايد، ان المقابلة ستظهر في تلفزيون الكويت الرسمي، وهو ليس أفضل حالا من تلفزيوننا الرسمي في السعودية، واليوم لا أحد يشاهد التلفزيونات الرسمية في العالم كله، وخاصة في منطقتنا، فالاتجاه السائد عند الناس، كله للفضائيات الخاصة، التي تعرف كيف تجذب المشاهدين، بحكم قلة القيود التي تحكمها مقارنة بتلفزيونات الدولة، وأنا اذا رغبت أن أظهر في لقاء، فأود أن يشاهدني ويسمعني أكبر قدر من المشاهدين، واليوم في الخليج وتحديدا في السعودية، لاحديث هناك الا عن «أبي أمي.. أبي أبوي حقة حليمة بولند، فالناس أصبحت تلاحق أخبار حليمة وأنشطتها بعد حلقة الكاميرا الخفية التي عرضت في رمضان الماضي (كان قد مضى على بث هذه الحلقة الشهيرة وقت زيارة القصيبي للكويت أقل من شهرين)، وصدقني لو ينشر خبر ولو كان صغيرا جدا في صحافتكم بأن حليمة بولند أجرت لقاء مع القصيبي، فان الكل سيترقبه بفارغ الصبر، وستحرص عليه النساء قبل الرجال، وحينها فقط سيشاهد الجميع حليمة، كما سيسمع الجميع ما سيقول القصيبي، وقد كان..

«خلنا نفتك من فواز»

بصراحة الرجل منطقي جدا، ولديه قدرة عجيبة على الاقناع، المهم رتبنا اجراءات اللقاء، وقبل وصول فريق التصوير بساعة تقريبا، لاحظ القصيبي أن رفيق السفير، النسيب «فواز، زوج ابنته «يارا، لم يغادر الفندق كعادته، حيث كان يذهب كل يوم للتسوق باكرا ولايعود الا وقت الغداء، فسأله عن السبب، فرد «فواز بأنه يريد أن يشاهد اللقاء! فقال له القصيبي: أنا أعرف سبب «تسمرك هذا الصباح، وعدم ممارسة هوايتك في التسوق، أنت تنتظر مجيء «حليمة، وتريد أن تشاهدها على الطبيعة، أما اللقاء فأنت أصلا سمعت كل ما سأقوله فيه مئة مرة ان لم يكن أكثر، ووالله ان لم تذهب فسأرسل «مسج لأبنتي «يارا، وهي ستتصرف معك، فحاول «فواز المماطلة، فأمسك القصيبي بجهاز هاتفه النقال وبدأ في كتابة «المسج، فما كان من «فواز الا اعلان الاستسلام والرضوخ لرغبة عمه، فقال القصيبي ضاحكا: «يازايد شوفوله سيارة توديه سوق شرق خلنا نفتك منه.. وجاءت حليمة وفريق العمل من مخرجين ومصورين وفنيين للفندق، وتم تصوير اللقاء الذي تألق فيه القصيبي كعادته في كل لقاء..

في حفل عشاء صديقه المرحوم عبدالكريم حجاج في الجابرية، ظهرت لي ولمن لا يعرف القصيبي عن قرب، وبشكل جميل، الجوانب الأخرى في شخصيته، فشهدنا المرح والتواضع والعفوية، في تعامل القصيبي الانسان مع جميع الحاضرين، وكان من بين حضور هذا الحفل: المرحوم الدكتور أحمد الربعي والسيدة حرمه، والأستاذ عبدالرحمن الراشد والأخ والصديق خالد الطراح، والشاعر عبدالرحمن رفيع، والأديبة ليلى العثمان، ووسط حفاوة أسرة المرحوم عبدالكريم حجاج بالضيف وبالمدعوين، وكرمهم اللامحدود، استرجع القصيبي وصديقه الشاعر عبدالرحمن رفيع ذكريات فترة دراستهما في القاهرة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات الموثقة شعريا والتي يحفظها رفيع كاملة..

أما حفل عشاء الدكتور محمد الرميحي في منزله في قرطبة، والذي كان من بين حضوره الدكتور أحمد بشارة والأخ فيصل العلي المطوع والدكتور يوسف الابراهيم والسفير غازي الريس، فقد شهد تجلي القصيبي في حديثه عن المنطقة وتحدياتها، كان عالما بأحوالها، وخبيرا بمشاكلها، كان الرجل عميقا في حديثه الى درجة بعيدة، وسلسا الى درجة ممتعة، وأظن أن القصيبي من القلائل الذين يملكون أدوات التحليل السياسي والاجتماعي الدقيق في المنطقة..

لقاء «المشاغبين.. وحنكة النفيسي

من خلال الاحتكاك اليومي بالدكتور القصيبي، تحقق لي شيء من «الميانة معه، وهو أمر ما كان ليتم، لولا تواضعه، ولولا الطبيعة المرحة التي تغلف شخصيته، فطلبت منه أن يخصنا بلقاء غير تقليدي في «الطليعة - جريدة المشاغبين كما كان يسميها يتيح له الالتقاء بشكل مفتوح مع كل «المشاغبين، فوافق على الفور، مستدركا: «مع انك ستورطني مع جرايدكم اليومية، فأنت تعلم أنني رفضت كل دعواتهم، لكن تبي الصج أنا حبيت حرصك على مهنتك، وأنا الحين أشوف بعيونك شغف الصحافي باقتناص الفرص، ياعزيزي الجدول بيدك ودبّر الأمر، اتصلت فورا بالأخ الكبير الأستاذ أحمد النفيسي رئيس التحرير، وأبلغته بموافقة الراحل على الالتقاء بنا نحن «المشاغبين، يوم غد، وفي معقلنا، فوجيء «بو بدر بفرح بالأمر، وبعد نحو عشر دقائق تقريبا، عاد «بو بدر ليتصل بي، وقال: «أنا قولبت الأمر، والحين أشوف أن مو من المناسب يكون اللقاء بالطليعة، الأفضل يكون في بيت واحد منا، علشان نبعد عن الضيف أكثر من حرج، الحرج السياسي له كوزير، والحرج مع الصحف، شرايك؟ أجبته: «عين الصواب يابو بدر، وفعلا تم الاتفاق على أن يحتضن منزل «بو بدر العامر اللقاء، ولمن لايعرف أحمد النفيسي، فمن المهم أن يعلم أنه صاحب رؤية ثاقبة في المواقف الحرجة والصعبة، لذا فان موقفا مفاجئا كهذا، تصرف به كمتمرس، يحسب للأمور حسابات دقيقة وبعيدة، قد لايراها غيره ممن يعايش المواقف ذاتها..

تنبؤ في محله تماما

كان الموعد مع «المشاغبين في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم الرابع للزيارة، وجاء بين اجتماع عمل عقده القصيبي مع نظيره آنذاك وزير الكهرباء والماء طلال العيار (رحمه الله) ودعوة غداء السفير السعودي، ووصلنا ل الضاحية، حيث منزل الأستاذ أحمد النفيسي، متأخرين عن موعدنا ربع ساعة تقريبا، بسبب ازدحام غير عادي شهدناه في الطريق، وكان حضور دعوة «المشاغبين هم حصرا: المشاغب الأكبر الدكتور أحمد الخطيب والأستاذ أحمد النفيسي، والأخ الكبير الأستاذ عبدالله السبيعي مدير عام الطليعة (عسى الله أن يعيده معافى من رحلة علاجه الحالية في لندن)، والأخ الصديق مظفر عبدالله، والأخ الصديق نشمي مهنا (وضاح)، وأيضا في هذا اللقاء كانت هموم المنطقة حاضرة فيه، حيث كانت طبول الحرب تقرع لاسقاط نظام الطاغية صدام (الزيارة كانت قبل نشوب الحرب بشهرين فقط)، وقدم القصيبي حينها صورة دقيقة لما ستؤول اليه الأوضاع في العراق، فعلى الرغم من عدم اندلاع حرب اسقاط نظام صدام حسين في ذلك الوقت، الا أنه تنبأ بقيام الحرب بسبب استمرار صدام في تعنته بشأن عدم الكشف عن مشروع السلاح الكيماوي، كما تنبأ أيضا بأن حرب اسقاط صدام ستكون سهلة جدا لا كما يروج «الواهمون، وقال القصيبي حينها أن مشكلة العرب أنهم لايتعلمون حتى من التاريخ القريب، وقال: سيكرر «الواهمون (كما فعلوا أثناء غزو الكويت) شعارات التصدي للعدوان وانهم سيذيقون الأعداء العذاب وسيجعلونهم يجرون أذيال الهزيمة..!!

القصيبي الإرهابي

سأله الدكتور أحمد الخطيب، عن ظروف عمله السابق، كسفير في لندن، وعن قصيدة «الشهداء التي أثنى فيها على الشابة الفلسطينية «آيات الأخرس، التي نفذت عملية انتحارية، في أحد أسواق القدس الغربية، وكيف تسببت القصيدة، في جعله سفيرا غير مرغوب به، في بريطانيا، لأنه أصبح بنظرهم، مسؤولا يشجع على الارهاب، من على أرضهم؟ فأسهب القصيبي في الحديث عن دور اللوبي الصهيوني في العواصم الغربية وتأثيره الكبير على السياسيين فيها.. وتنقّل الحديث مع «المشاغبين، بين موضوعات ربما هي غير صالحة للنشر حاليا، الا أن سؤال الدكتور الخطيب، عن صعوبة عمل السفراء الخليجيين في العواصم المهمة، جعلت القصيبي يبوح بأمر مهم يتعلق بصميم عمله، فقال أنه طلب من الملك فهد (رحمه الله) حينما قرر تعيينه سفيرا في لندن، أن يضع بيده أمرا ملكيا مكتوبا، يعفيه من عمليات استقبال وتوديع «الشخصيات غير الرسمية التي تأتي الى العاصمة البريطانية، ذلك أنه لكثرتها، فان عمل السفير هناك يختزل في هذه المهمة الشكلية، وبالتالي تعيق سير أعمال السفير الجاد الذي ينوي أن يقدم عمله السياسي والدبلوماسي على الوجه الأمثل، وقد كان للقصيبي ما أراد! فهل يستطيع شخص آخر أن يطلب ما طلب القصيبي؟! بالطبع لا، فهو «المختلف.. طبعا أجواء الضيافة «الحاتمية التي هيأتها الأخت لولوة الملا (حرم النفيسي) في اللقاء، لاتوحي بأن الدعوة مقتصرة على الشاي والقهوة، و«الخفايف من حلو ومعجنات! أبدا، ف «أم بدر لم تلتزم بتوصية الراحل التي كان يلقنني اياها، ويطلب مني ان أبلغها لمضيفيه في عدم التكلف! فلقد كانت مائدتها العامرة «دسمة بامتياز، ما جعلنا كلنا: «المشاغبين وضيفنا، نتعامل معها كوجبة غداء، فهي دسمة ولذيذة، وفوق هذا وذاك «طاحت في تمام الساعة الواحدة ظهرا! ونحن على مائدة طعام «أم بدر، التفت القصيبي ناحيتي، وهو متلذذ بالأكل، وقال: «اذا السفير السعودي لاحظ بعد شوي اني ما أقرب للأكل، أبي أقوله اني مسوي رجيم، وأبيك تشهد لي..، وانطلقنا لليرموك حيث منزل السفير السعودي آنذاك، بعد أن ودّع القصيبي «المشاغبين، وفعلا لاحظ السفير أن ضيفه لايأكل، الا أنه لم يحتج شهادتي، فحينما استفسر السفير منه عن سبب امتناعه عن الأكل، أقر الراحل بالحقيقة، وقال أنه لم يقاوم الطعام اللذيذ الذي جاد به «بيت النفيسي.. بعد أن انتهت كل الأنشطة والزيارات الرسمية في بحر اليومين المخصصين للاحتفالية (عدا لقاء العيار وغداء السفير السعودي)، أبدى الراحل انزعاجه، من الموكب الرسمي، الذي كان يقلّه، في كل تحركاته، فطلب مني، أن أبلغ المسؤولين الأمنيين، بعدم رغبته في ركوب السيارة «المصفحة، والاكتفاء فقط بسيارة عادية ومن دون أن يكون هناك موكب مرافق في التنقلات، وكان يقول أننا سنزور منازل الأصدقاء والمعارف والمحبين، ولانريد أن نزعجهم ونزعج جيرانهم، بسبب اقتحام الموكب الكبير أحياءهم الصغيرة (كان الموكب يتكون من أربعة سيارات)، أبلغت الأخ بدر الرفاعي الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب برغبة الضيف، فأجرى اتصالاته بالداخلية، فرفضوا، وعلمنا أن الأمر بيد الديوان الأميري، وهو صاحب القرار، أبلغنا الراحل بما حصل، فانزعج مجددا وكرر مطلبه، فاتصلنا بالديوان الأميري، وبعد أخذ ورد، اقتنعوا بتقليص الموكب، حيث تم الاكتفاء بمرافقة سيارة واحدة للسيارة التي تقل الضيف، أما السيارة «المصفّحة فرفضوا تماما استبدالها بسيارة عادية، لدواع أمنية، لما تمثله شخصية الراحل من ثقل سياسي في المنطقة، ارتاح الراحل بعض الشيء لهذا الأمر، فهو لايحب البهرجة، كما يمقت المظاهر المتكلفة، انه بحق: «سيد البساطة.. «النكتة أو «الغشمرة أوالدعابة الراقية، أجزم أنها كانت واحدة من أهم سمات شخصية القصيبي، كما أزعم أنه واحد من أهم الشخصيات الساخرة، فـ«النكت تنساب منه بتلقائية عجيبة، ومدعّمة بسرعة بديهة لاتضاهى، فأنت تستغرب من النكتة التي يصنعها وليدة موقف مفاجئ، وتستغرب أكثر حينما يرد بسرعة بديهة أكثر من الأولى، على ردود فعل المتلقي للنكتة أو الدعابة، لذا فان من أكثر الأشياء التي استمتعت فيها بحياتي كلها، كانت مرافقة الراحل في كل أيام الرحلة، فكانت «مشاوير الرحلة التي كنت أقضيها بصحبته مرافقا له في السيارة، جالسا معه في المقاعد الخلفية، هي المكان الأكثر امتاعا، فالتنقل من موعد الى آخر، ومن زيارة الى أخرى، كان متعة لاتجاريها متعة، وكنت ولا أزال أعتبر أنني محظوظ بسببها..

ذو اللمسات الإنسانية

في أحد «المشاوير، قال لي: «يا أخي انت أشعرتني بالذنب، ماشاء الله عليك دائما متواجد، ودائما نجدك حاضرا، وملبيا لاحتياجتنا التي لاتنتهي، تبي الصج الله يعين أم العيال والعيال عليك، الظاهر ماتشوفهم الا آخر الليل لما ترجع للبيت، هنا علمت أن الراحل لم يكن يعرف أن من ضمن الترتيبات التي أعددناها في المجلس للمرافقة، هي اقامتي الدائمة في غرفة تقع في الدور ذاته الذي يقع فيه جناحه الخاص، رغم أن سكرتيره الخاص كان يعرف بهذا الأمر، بسبب الاتصالات التي كنا نجريها بيننا، من خلال الهاتف الداخلي للفندق، في نهاية كل يوم، لنراجع جدول اليوم التالي، الراحل عرف بالأمر في الليلة الآخيرة، فبعد أن تركت جناحه بنحو ثلث ساعة، مذكرا اياه بموعد الطائرة غدا، قال للسكرتير: «نسيت أن أعطي زايد الليلة رسالة الشكر التي يستحقها، ولا أريد أن نتصل به ليعود للفندق، تلقاه تعبان، ويمكن وصل البيت فأجابه السكرتير مستغربا: «زايد ينام معانا بالفندق، هنا عقدت الدهشة لسان القصيبي، وطلب من سكرتيره الاتصال بي فورا لأحضر للجناح، حضرت، فبادرني بالقول: «ليش ما قلت لي أنك مقيم معانا بالفندق؟ أنت الحين تشعرني بالذنب أكثر، حتى النوم تقضيه «اهني بعيد عن أهلك وعيالك، أجبته: «يادكتور، انت ضيفنا، وهذا عملنا، وصدقني أنني مستمتع جدا بمرافقتك، ولم أشعر بتعب أو بضيق، والأهل قلت لهم: اعتبروني مسافر في مهمة رسمية كم يوم، وأنا قاعد أتطمن عليهم على طول بالتلفون، قال: بارك الله فيك، ومده يده وسلمني رسالة شكر وهدية عبارة عن مجسم نخلة مذهبة..

.. وفي الختام كانت «رسالة أيضا


رجعت للغرفة، وفتحت مغلف رسالة الشكر لأقرأها، فوجدتها مكتوبة «أيضا بخط يده، ووجدتني ألتهمها بشغف كبير، قرأتها مرتين وثلاثه وأكثر، وأنا مستمتع بعباراته الجميلة، وبشهادته الغالية عندي بنجاح مهمتي، وسعادتي بنجاح المهمة لم تكن بالنسبة لي نجاح عمل، فهذه أول وآخر مهمة لي من هذا النوع، فلم يسبق لي أن رافقت أي شخصية قبل القصيبي، ولم أرافق بعده أحدا، ولكن شعوري بالسعادة بنجاح المهمة أتى من ارتباطها بمرافقة شخص أحببته قبل ألتقيه، وأحببته أكثر بعد اللقاء، ومع قراءة رسالته هذه، تذكرت رسالة «حائل، فهذا هو القصيبي لم يتغير، فالقصيبي السفير هو ذاته القصيبي الوزير، لأن غازي هو غازي، الثقة بالنفس هي ذاتها، والتجلي مقامه، لذا فمن المؤكد أن عادته في كتابة رسائله بخط يده أيضا لم تتغير. غادرنا غازي القصيبي من الكويت، وكانت النفس معقودة على رجاء اللقاء مجددا، الا أنه لم يتم، وغادر غازي القصيبي دنيانا، فباتت النفس في حزن وفي كمد، الا أن العزاء فيما خلّفه الراحل من آثار فكرية وأدبية مكتنزة، تنير دروب الباحثين عن الحق والاجتهاد.. والجمال.

تعليقات

اكتب تعليقك