محمد الرميحي يكتب عن ظواهر ذات طابع اجتماعي برزت في شبكات التواصل خلال فترة العزلة الحالية

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 1015 مشاهدات 0


المناطق العربية انشغلت بأولوياتها المختلفة أثناء هذه الجائحة الكبرى، لكن في الأغلب أن الضحية الثانية بعد أخبار الوفيات والإصابات الذي يسببها هذا الوباء هي الحقيقة.

 أتحدث هنا حصراً عن المشهد الخليجي، ومع فرض التباعد الاجتماعي استُبدل بالتزاحم الاتصالي، ومع البحث عن المناعة الجسمية زادت قلة المناعة الكلامية، فهناك كم من الأخبار التي تُتداول في أغلبها لا تستند إلى حقيقة وبعضها فيديوهات لصورة مركبة عن أشخاص وأشياء لم تحدث، ونحن في دول الخليج لجأنا كغيرنا في الغالب إلى العالم الافتراضي في محبسنا غير الطوعي في منازلنا، لكن بنكهة مختلفة.

 هذا الأسبوع يبدأ الطريق بالانفراج قليلاً، حيث أعلنت الكويت وبعض دول الخليج بدء المرحلة الأولى من العودة إلى العمل، وبدأت الحياة تدب من جديد ولو بطريقة تدريجية في حالة من «التعايش» مع الجائحة وليس حالة قهرها.
ماذا أفرز البقاء في البيت والتعامل مع وسائل الاتصال من مظاهر اجتماعية؟ في الحقيقة الكثير، فمن الطبيعي للكائن البشري أن انتابته غشاوة ما تغشى الأبصار عندما يتعلق الأمر بأمور تحدث عشوائياً من دون أن يعرف كنهها أو حتى سببها بهذه السرعة وبذلك الانتشار؛ فحالة اللامعرفة والغموض تجعل الإنسان يتصرف مبتعداً عن المنطق إلى الأسطورة، وقد يصاب بالثرثرة غير المنضبطة، ويتحول بعض الأفراد إلى شخصيات طاردة وبعضها منفر.
الظاهرة الأولى هي حجم التنفير الملاحظ في انتشار التنمر في وسائل التواصل الاجتماعي. يبدو أن العزلة قد دفعت البعض إلى الكتابة العلنية من دون تحفظ فيما يحب أو في الغالب يكره، وفي الحالة الطبيعية سابقاً يتحفظ عن البوح، فالعزلة تخرج كثيراً من مشاعر الكراهية ضد الآخر المختلف، أكان شخصاً أو مؤسسة أو حتى دولة، التوتر النفسي أحد أسباب ارتفاع وتيرة الخصام غير المنضبط، بل في مكان ما دخل البعض في حفلة «ردح» بين «بلادنا وبلادكم» بين التقريظ التمجيدي للنفس، والتبخيس التحقيري لآخرين، واسترجعت الكثير من التصريحات السابقة من حروب العرب الباردة! وكثير منها فجة وقيلت لمناسبات جد مختلفة، وفي بعض الأحيان تصل تلك التصريحات إلى أن تكون وقحة محملة بالجلافة. من جانب آخر، ظهرت شخصيات «كاريكاتورية» تستخدم المقاطع المصورة والكلام الجارح معجبة بصوتها وصورتها لتوزيع آرائها السياسية والاجتماعية غير الناضجة أو المدفوعة بموقف شخصي، وكثير منها تشي بشخصيات غير متزنة توزع الاتهامات وتشيع الكثير من الأجواء السلبية وتحرض على الاشتباك الاجتماعي، إلى درجة أن السلطات في بعض الأحيان لم تستطع أن تتغافل عن الشاذ منها فيتم ملاحقتها قانونياً، وامتلأ الفضاء الإلكتروني بهكذا «مشاغبات» و«اتهامات» و«تنمر»، حتى أصبح هو القاعدة لا الشواذ. الأكثر حزناً أن غالب ذلك الشقاق اعتمد التعميم على المجتمعات الأخرى والشخصيات العامة والتصعيد الاتهامي على الأشخاص والدول، وأصبح التصويب على الكل لا الجزء. من جانب آخر، فإن الملاحظ في مكان ما رواج الأفكار القيامية التي تأخذ المجتمع إلى الأسطورة والتفسير الخرافي، وتقدم حلولاً جاهزة إن تمعنا فيها فهي أرض خصبة للإسلام السياسي، تبدأ بترويض العقول وتنتهي باختطافها مستفيدة من خوف الإنسان من المجهول! تقديري أن تلك الشحنة من الكراهية والشحنة المضادة من الأفكار القيامية قد تترك آثاراً سلبية في المستقبل بدون دواء ناجع لها، إلا أن المقابل الآخر أن المجتمع الخليجي يمتلك نخبة مدنية، صحيح أنها أقلية، لكنها صدحت باستهجانها تلك الظواهر السلبية من التنمر إلى الأفكار القيامية، المشكلة أن الإنسان في الغالب يرغب في إشاعة الفاحشة، فالمتابع للسلبي هو الأكثر من الموافق على الإيجابي.
الظاهرة الثانية هي نابعة من التركيبة السكانية في الخليج، فعدا السعودية وعُمان اللتين يشكل مواطنوهما ما يقرب من 60 في المائة تقريباً من مجموع السكان، فالدول الأخرى بعضها أقل من 50 في المائة، وفي بعضها الآخر حتى أقل من 12 في المائة، وهي أرقام مثيرة للجدل منذ زمن ونوقشت في لقاءات دراسية متكررة، إلا أن طبيعة السياسات التنموية السابقة كانت تفرض في مكان ما الاستعانة بالضرورة بكم كبير من العمالة غير المحلية. وكذلك التراخي في وضع أو تنفيذ القوانين المنظمة لها؛ مما ترك فجوة كشفتها جائحة «كورونا» أمام العامة. السبب المباشر في إثارة إشكالية التركيبة السكانية في الخليج أثناء الجائحة أن عدداً كبيراً من العمالة غير المؤهلة تسكن في أماكن مكتظة، فهي موجودة من أجل إعانة أسرها التي تركتها في بلدانها؛ لذلك فإن أكبر توفير من دخلها تستطيع أن تقوم به هو لصالح أهلها في الوطن الأم؛ لذلك تكدست في السكن الرخيص وغير الصحي، وكانت في الغالب ضحية الجائحة بدرجة نسبية كبيرة لا سبباً لها، إلا أن الأسهل أمام كثيرين هو أن تتم شيطنة هذه الشريحة؛ ولأن منطقة الخليج محاطة بكثافات سكانية ضخمة في الشرق وفي الغرب، وحيث إنها منطقة عمل جاذبة فالبعض وجد في الموضوع «العمالة» ضالته للتصويب على هذه الفئة بشكل غير احترازي؛ وذلك عائد إلى الانحياز الذهني والثقافي ضد الآخر، بل والتصويب على أوطانها في بعض الأوقات.
الضغط النفسي بدأ بالخلط الشديد بين «تعديل التركيبة السكانية» من جهة، وبين حاجة هذه المجتمعات إلى عمالة كمثل غيرها من المجتمعات الأخرى، هذا الخلط سبب إرباكاً للدولة وضبابية عند الجمهور وبداية تشكيك في علاقات الجوار، بل وإفرازاً نفسياً شبه عنصري. الحقيقة أن هناك شريحة فنية من اليد العاملة سوف تحتاج إليها دول الخليج الآن وفي المستقبل، وشريحة أخرى يمكن الاستعاضة عنها بعد الجائحة عن طريق العودة إلى رسم سياسات رشيدة من الدولة نفسها، ومن بينها الانتقال من الأعمال «كثيفة اليد العاملة» إلى أعمال «كثيفة رأس المال أو كثيفة التقنية»،.
ذلك الانتقال يحتاج إلى سياسات متوسطة وطويلة الأمد وإلى زمن، وأيضاً يحتاج إلى تغيير في طريقة إنشاء وإدارة واستمرار الأعمال وتدريب المواطنين على مهن لم يكونوا يألفوها، والأهم والأكثر إلحاحاً تغيير في ثقافة العمل والتعامل مع الآخرين الذي يبدأ بإصلاح مناهج التعليم وسياسات إعلامية نوعية مختلفة وتوعية مجتمعية. فالملف إذن ملف كثيف ومتشعب.
مما تقدم، فإن من يعتقد أن ما قبل الجائحة يجب أن يكون ما بعدها، من الحكمة أن يراجع نفسه، فقراءة تاريخ ما بعد الأوبئة التي مرت بالإنسانية تتيح للمتابع استنتاج أن ثمة تغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية سوف تصبح واجبة التنفيذ.
آخر الكلام:
مستوى جودة الحياة في دول الخليج في المستقبل هو التحدي الذي سوف يواجه راسم السياسات، من نوعية الرعاية الصحية، إلى الانتقال إلى مجتمع التقنية، وما بينها من سياسات جديدة مستحقة تهدف إلى أنسنة المدينة الخليجية.

تعليقات

اكتب تعليقك