‫داهم القحطاني: سيرة عبدالرحمن العتيقي أكبر بكثير من أن تختصر في مقالة واحدة فالرجل كان بالفعل شخصية نادرة مثَّلت بصدق مرحلةً من رجال الدولة المؤهلين والمخلصين‬

زاوية الكتاب

كتب داهم القحطاني 857 مشاهدات 0


في العاشر من أغسطس عام 1990، وفي قاعة يتجمع فيها الملوك والأمراء والرؤساء العرب، بقصر المؤتمرات بمدينة نصر في العاصمة المصرية القاهرة، قبل أن يتجهوا جميعاً إلى القاعة الرئيسية لاستكمال القمة العربية الطارئة لبحث الغزو العراقي لدولة الكويت، فوجئ الرؤساء العرب بصوت يعلو على صوت الزعيم الليبي معمر القذاقي ويقول له بانفعال «اجلس يا معمر.. اجلس يا معمر.. إذا كان زعماء الخليج يتجنبون الرد عليك وعلى تطاولك عليهم لأنهم تربوا على الخلق الكريم، فأنا سأرد عليك».

وحين سأل القذافي «وأنت من تكون؟» رد بحزم «أنت تعرفني جيداً وسبق أن تحاورنا كثيراً، أنا مواطن كويتي، ومواطن عربي مجروح على استعداد للاستعانة بمن يكون لتحرير بلدي من قوة غاشمة احتلت الأرض وهتكت العرض وفتكت بأبناء شعبي». 

القذافي الذي صعق بهذا الصوت جلس على المقعد، بعد أن كان يرفض محاولات الرئيس المصري محمد حسني مبارك لدفعه للدخول للقاعة، حيث كان يرفض وبصوت عالٍ محاولات تمرير قرار للقمة قدمته السعودية يدين غزو العراق للكويت، ويتيح للكويت ودول الخليج الاستعانة بمن يشاؤون لإخراج القوات العراقية من الكويت والحفاظ على أمن دولهم.

لم يكن ذلك الصوت سوى صوت المستشار في الديوان الأميري آنذاك، وعضو الوفد الكويتي عبدالرحمن العتيقي الذي وافته المنية الجمعة الماضي. 

هذه الواقعة غير المسبوقة لم تنتشر طوال عقود؛ لأن العتيقي كان بالفعل مثالاً لرجل الدولة الذي لا يهتم بصنع مجد شخصي بقدر ما كان يهتم بإنجاز المهمة على أكمل وجه، فهذا نهج العتيقي في كل منصب تولاه خلال مرحلة النشأة والنهضة التي تعتبر من أهم المراحل التي مرت بها الكويت الحديثة.

الشاب الذي تميَّز منذ الصغر بمعرفة مسك الحسابات، واللغة الإنكليزية، والتميز في مجال انشاء وتنظيم الإدارات الحكومية لم يتولَّ وزارتي المالية، والنفط عام 1967 الا بعد أن انتقل بين مناصب عدة أثبت فيها حنكته.

فقد كان السفير الذي تولى مهمة اقناع الدول في الأمم المتحدة باستقلال الكويت، حيث كان يتولى منصبي سفير الكويت في واشنطن، ومندوبها الدائم في الأمم المتحدة. ثم انتقل إلى منصب وكيل وزارة الخارجية عام 1963، وتولى مهمة مساعدة ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ صباح السالم في المفاوضات مع العراق للوصول لاتفاقية 1963 الحدودية بين البلدين، التي شهدت أول اعتراف عراقي بسيادة الكويت واستقلالها، وهي الاتفاقية التي كانت أساس كل قرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي التي صدرت عام 1990 حيث كانت نصوصها المُحكمة عائقًا أمام محاولات الرئيس العراقي صدام حسين لإضفاء الشرعية التاريخية على غزوه للكويت.

النفط كان عصب المالية العامة في الكويت، ولهذا كان توليه مهام وزارتي النفط والمالية المهمة الأكبر في حياة عبدالرحمن العتيقي، حيث استطاع وفق أسلوب العمل الجماعي الذي يؤمن به ويتبعه، أن يوفر للكويت استقراراً مالياً طوال 14 عاماً تولى فيها وزارة المالية، حيث تحولت الدولة لنمط الإدارة الحديث، وأنشأت المؤسسات المالية بشكل منظم ودقيق، وتمت تنمية الواردات النفطية ليتكون لدى الكويت احتياطي مالي ضخم بلغ عند مغادرة العتيقي وزارة المالية نحو 100 مليار دينار كويتي.

كما نجحت الكويت في عهد العتيقي وزير النفط، بتأميم النفط الكويتي بالتنسيق مع منظمة أوبك، وعبر سياسة هادئة ومتدرجة جنبت الكويت التصادم مع دول كبرى وعظمى كان لديها قدر كبير من النفوذ والتأثير سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.

تواضع العتيقي وتركيزه على أداء مهامه من دون محاولة الترويج للنفس إعلامياً، أخفى عن كثيرين معلومة أنه صاحب فكرة إنشاء صندوق للأجيال المقبلة، يتم فيه تخصيص نسبة سنوية ثابتة من إيرادات النفط المتعاظمة، وذلك لكي تنعم كل الأجيال بهذه الثروة بدلاً من تبديدها على جيل بعينه.

والعتيقي الذي كان يرفض المد الثوري العربي خلال حقبتي الخمسينات والستينات، وما يعرف بالقومية العربية القائمة على النهج الاشتراكي، كان يتبنى في المقابل سياسة تطوير البلدان العربية بهدوء وبطرق علمية ومتدرجة ووفقاً للانتماء العربي الإسلامي، من دون استيراد النظريات الاقتصادية والسياسية من الغرب أو الشرق.

وقد طبق ذلك عمليًا حين نجح مع آخرين في إنشاء بيت التمويل الكويتي كتجربة رائدة في الاقتصاد الإسلامي، وهي التجربة التي كانت بداية لإنشاء سلسلة كبيرة من المصارف الإسلامية في دول عربية وأجنبية عدة.

سيرة عبدالرحمن العتيقي أكبر بكثير من أن تختصر في مقالة واحدة، فالرجل كان بالفعل شخصية نادرة مثَّلت بصدق مرحلةً من رجال الدولة المؤهلين والمخلصين، الذين كانوا يعملون بنزاهة وإخلاص ومن دون الالتفات للمصلحة الشخصية، أو إلى شهوة المال رغم أن كنوزاً لا تحصى كانت تحت أيديهم.

رحم الله عبدالرحمن العتيقي وأسكنه فسيح جناته.

تعليقات

اكتب تعليقك