محمد الرميحي يتوقع عدم استمرار حكومة الكاظمي : العلة الحقيقية في العراق تكمن في ضعف المؤسسات وعدم تبني هوية عراقية مستقلة لدولة لا تبعية لها لإيران

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 944 مشاهدات 0


استبشر البعض خيراً بحصول رئيس الوزراء العراقي المكلف مصطفى الكاظمي على الثقة من البرلمان العراقي بعد خمسة أشهر من قبول استقالة حكومة عادل عبد المهدي، والتي واجهت عدداً من الصعاب لحظة الميلاد. الصعوبات التي رافقت حكومة عبد المهدي والمسرح السياسي المحيط بها جعلت كاتب هذه السطور ينشر في 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2018 مقالاً تحليلياً عن احتمالات تشكيل الحكومة ومدى بقاء المهدي في السلطة، جاء فيه بالنص «إلا أن الاحتمال أن يطول الزمن قبل أن يصل عادل عبد المهدي إلى تكوين متكامل لوزارته العتيدة، كما أن الاحتمال الثاني، هو أن الزمن سوف يقصر بها (إنْ ظهرت) فبقاؤها في الحكم سوف يكون قصيراً». صوت على حكومة عبد المهدي الناقصة في أكتوبر 2018 وقدم استقالته في ديسمبر (كانون الأول) 2019، أي أنها استمرت أكثر قليلاً من سنة واحدة فقط! معظمها معطلة عن الفعل. لم يكن الحديث وقتها ضرباً من التنجيم، بل كان قراءة للمسرح بمتغيراته. ربما من أصعب الشعوب العربية حكماً هو العراق، لكنه ليس الاستثناء؛ فالقضية الأساس وربما الكبرى أنه لم يتكون لدى معظم النخب العربية تصور متكامل وعصري للدولة الوطنية في بناء المؤسسات وإقامة الآليات واحترامها، أي توازن صحي بين الهوية الوطنية وما فوق الوطنية! ذلك التوازن غير موجود، فكيف إذن يكمل السيد مصطفى الكاظمي فترة الحكم التي هي نظرياً تمتد إلى أربع سنوات في ظل كل تلك المتغيرات المحيطة بالعراق داخلياً وإقليمياً ودولياً، وكل تلك الجماعات السياسية المتنافرة بين الولاء الوطني وما فوق الوطني. فتركيبة النظام العراقي القائم على المحاصصة سمح لبعض العراقيين بتوجيه ولائهم للخارج، وحتى الاستقواء بالخارج للتأثير في الداخل.

الصورة الأوسع التي يتوجب النظر إليها ومتخطية العراق ربما تتضح في مسيرة رئيس الوزراء المغادر عادل عبد المهدي، فقد تقلب في مسيرته السياسية إلى أكثر من وجه يشكل مثالاً لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية من العرب، فبدأ بعثياً، ومن ثم قومياً، ثم يسارياً، ثم أقصى اليسار (ماوياً) وأخيراً إسلامياً! ذلك يلخص مسيرة نخب العمل السياسي العربي بعد الحرب الثانية (تجربة وخطأ) متكئاً على التكوين الغامض للهوية (هل هي وطنية، قومية، دينية؟!) من دون بوصلة تحدد شكل الدولة الوطنية المطلوبة وهياكلها وتحديد هويتها، لازم ذلك النقص المبني على الغموض ظهور الدولة الوطنية العربية الحديثة، ولا يزال يشير إلى عوارها السياسي والفكري، فمن يصل إلى السلطة يكون هو المالك للحقيقة المطلقة والآخرون يجب تهميشهم وإطلاق صفات الانحطاط عليهم، ويحق تصفيتهم أيضاً لأنه يريد إلحاق الوطن بشيء غامض اسمه «القومية» و«الإسلامية». ظهر ذلك في الأدبيات المصاحبة، فعند قراءة معظم تنظير حزب البعث سوف نجد أن معظمه كان نقلاً من أفكار «الفاشية الأوروبية» التي ازدهرت بعد الحرب العالمية الأولى ونادت بهيمنة على أوروبا، مخلوطاً ببعض المقولات المثالية «أمة واحدة ذات رسالة خالدة»! كما يتجلى في مؤلفات ميشيل عفلق أو منيف الرزاز، ثم قفز العسكر على الحكم بمساعدة «الناقمين» على الأوضاع وتحت تجييش جماهيري عاطفي يعرف ما لا يريد، لكنه لا يعرف على وجه الدقة ما يريد. الضباط الأحرار في مصر تحالفوا مع «الإخوان» في البداية، وبدأت التجارب في الحكم على طريقة التجربة والخطأ، من الاشتراكية العربية، وانتهى بما عُرف بالميثاق بعد هزيمة 1967 مع تصفيات للمخالف أولاً من خارج الدائرة الضيقة، ثم من داخلها، وازدراء لآليات الديمقراطيات الحديثة. تبع تجربة عبد الناصر كل من الجزائر والسودان وليبيا وسوريا بأشكال مختلفة، وعندما يصل النظام العسكري إلى مأزق (كما حدث لحكم النميري في السودان) يقفز إلى «الإسلام السياسي» الذي أصبحت نتائجه الكارثية مرسومة على وجوه السودانيين والسودانيات اليوم. حتى في البعث العراقي عندما ضاق الخناق على دولة التصفيات لجأ إلى «الحملة الإيمانية»! وفي سوريا، فإن حكم العسكر قاد إلى حكم التوريث مع شعارات لفظية فارغة من محتواها وملايين الضحايا... كل هذه التجارب خلطت بشكل مرضي بين الوطني وما فوق الوطني. حتى اليوم لم نرسُ على نظرية رشيدة في حكم الدولة الوطنية العربية. ما هو متاح اليوم في العراق وفي بلاد أخرى تشبث بما يمكن أن يسمى الإسلام السياسي، والذي يعتقد البعض أن «أمثولته» موجودة في تركيا الإردوغانية على ما في التجربة من قصور بيّن جعلت حتى من بعض قادتها المؤسسين ينقلبون عليها، أو أحزاب مؤدلجة تتشكل في جماعات «الإسلام السياسي» ذي الجذور الإخوانية أو الخمينية! العراق ساحة تقدم لنا نموذج الفشل في الارتكان إلى ما فوق الوطني (إسلام سياسي طائفي)؛ فالبيت الشيعي عندما يقترب من السياسة يختلف ويتعارض من داخله، وكذلك البيت السني. واضح أن الركون إلى هكذا محاصصة سبيله الفشل والفرقة، السبب أن كل تيار من هذه التيارات السياسية يتوسل الشعار المذهبي مرفوعاً بالدعم الخارجي لحشد الأتباع حتى على قواعد مناطقية أو عشائرية، تلك قواعد لا تبني الأوطان، بناء الوطن هو اعتبار أولاً أن كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، وأن التعددية في الاجتهاد السياسي هي الأصل، والطريق إلى ذلك آلية ومؤسسات، وصناديق انتخاب حرة وشاملة ودورية في إطار الدولة الوطنية المدنية، بغير ذلك لا تنضج أوطان تساير العالم في القرن الواحد والعشرين. الإسلام لا توجد فيه نظرية سياسية؛ فمنذ كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» بات حقيقة يقينية، وجاءت محاولات للي عنق المبادئ الإسلامية العظيمة وإدخالها في تشكيل سياسي ضيق وانعزالي وغير ديمقراطي كما فعل منظرو حركة «الإخوان»، تلك الكتابات لم تخرج في معظمها عن الكتابات الضعيفة لمنظّري حزب البعث أو القومية العربية كمثل مؤلفات جهاد عودة، أو الأكثر شهرة سيد قطب أو حتى المتأخرين كمثل راشد الغنوشي، يبحث القارئ فيها عن منهجية عقلانية وعن قواعد عامة للدولة الحديثة فلا يجد غير حديث عاطفي وغير منهجي، ولعل الأزمة على أرض الواقع لمثل هذا التفكير والممارسة متمثلة اليوم في ممارسة الجمهورية الإسلامية وفي محاولات امتدادها إلى الخارج رغبة لسيطرة هويتها على الهويات المجاورة يقودها مرشد (معصوم)! وحكم مقدس! من هنا، فإن فرص مصطفى الكاظمي في ظل كل المتغيرات هي فرص ضعيفة؛ لأن العلة في ضعف تركيب المؤسسات وخوار في الآليات وضبابية في الهويات، فهو يحتاج أولاً إلى حسم تحديد هوية واستقلالية الدولة العراقية الوطنية، فهل يستطيع؟

آخر الكلام:
تذويب الهوية الوطنية في هوية مفترضة أوسع يقود إلى الخلل في بناء الدولة الوطنية فتصبح الطبقة السياسية كالمُنبت لا وطناً بنت ولا نظاماً أبقت!

تعليقات

اكتب تعليقك