يوسف الحمدان: لم يكن عبدالعزيز السريع مؤسسا ومؤلفا وإداريا لفرقة الخليج العربي فحسب إنما كان إلى جانب تلك المهمات منظرا لاتجاه مسرحي مغاير في الكويت والخليج العربي
زاوية الكتابفي حضرة عميد المسرح الكويتي وأحد أهم رواد الثقافة في دولة الكويت والخليج العربي الأستاذ الكاتب المؤلف العزيز عبدالعزيز السريع أنعم الله عليه بالصحة والعافية وطول العمر ، تكون في بحر الثقافة وعلومها وروافدها المتعددة الأنواع والمشارب والاتجاهات ، تكون مع معرفة موسوعية تنهل من بحر لا حدود لمداه ، فأستاذنا ومعلمنا وعميدنا أبو منقذ مؤسس في كل شأن ثقافي وفني وإبداعي ومؤسساتي في الكويت وخليجنا العربي ، وحضوره فاعل ومؤثر في كل هذه الشئون حتى المدى الثقافي العربي .
هو ابن وربيب التحولات الثقافية والفكرية في الخليج والوطن العربي منذ ستينيات القرن الماضي والعقد الذهبي في السبعينيات ، هو الذاهب نحو التغيير في خارطة الفكر والثقافة في الكويت والخليج العربي ، هو ابن التيارات المعاكسة المشاكسة الخلاقة التي تروم زمنا يحفل بأحلام النهضة الجديدة المغايرة في عالمنا العربي ، هو ذاكرتنا المسرحية والثقافية الحية التي شهدت كل التحولات الثقافية بمنعطفاتها وانكساراتها وتحدياتها ونهوضها من جديد ، والتي لم تزل بعد شاهدة على عصر تقاطع في زمنه قرنان وانبثقت وتجلت وانحدرت وتماسكت وانشطرت من بين أضلعه أجيال وأجيال .
لم يكن العزيز بمعزل عن كل ما يحدث في هذه التحولات ، إنه ابنها الذي لم يذهب للمسرح بعيدا عن أجنحة الثقافة والفكر التي كانت لها أشد التأثير في كل نتاجاته الإبداعية والثقافية التي حلقت به في فضاء المعرفة الثرة ، هو الباحث بلا هوادة في كل تفاصيلها ودقائقها وتضاريسها وتخومها ، هو المنتج لوعي جديد يُعمِل شكوكه في البنى المطمئنة لتاريخ لا يروم غير السائد في ثقافتنا الخليجية والعربية ، ولم يجد العزيز مناصا من ترجمة هذا الوعي إلا من خلال المسرح الفعل الجمهور المجتمع ، إذ لم يجد في كتاباته
القصصية الأدبية متنفسا مثلما وجده من خلال المسرح الذي ظل مخلصا له ومبدعا فيه حتى يومنا هذا .
وكان الشغف الأول الحقيقي للمسرح مع قرينه ورفيق عمره وشريكه في الهم والحلم الفنان المخرج المبدع الراحل صقر الرشود ، إذ البدايات الأولى لم تجد مبلغها من الحلم مثلما وجدته مع الرشود ، حيث الانطلاقة المسرحية الجديدة في الكويت والخليج العربي ، وحيث القلق والأرق والألق ، وحيث التقاء الهم الحلم الخليجي بالحلم العربي الأكبر ، وحيث تشكيل فرقة مسرحية تلبي شغف وحلم كل المثقفين التنويريين في الكويت ، ليصل صدى وتأثير هذا الحلم إلى أبعد نقطة في مدى خارطتنا العربية .
لم يكن العزيز مؤسسا ومؤلفا وإداريا لفرقة الخليج العربي فحسب ، إنما كان إلى جانب تلك المهمات منظرا لاتجاه مسرحي مغاير في الكويت والخليج العربي ، ومحتضنا لأجيال تملكت الإبداع المسرحي في هذه الفرقة ، ومتابعا لأجيال عنيت بالكتابة الإبداعية في الكويت حتى وإن لم تكن تنتمي لفرقة الخليج العربي ، الأمر الذي أهله لأن يكون حكيم المواقف الصعبة في اللجنة الدائمة للفرق الأهلية في دول مجلس التعاون الخليجي بجانب قرينه الأستاذ والناقد البحريني الخليجي الكبير الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم رئيس اللجنة الدائمة شافاه الله وعافاه وأطال في عمره .
ودأب العزيز ذاهب نحو امتداد المد والمدى ، فهو لمن لا يعلم من مسرحيينا العرب ، من اقترح تأسيس مهرجان تجريبي في القاهرة على وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني ، وهو أحد المتابعين لمهرجان دمشق المسرحي منذ تأسيسه وصديق حميم لرئيسه آنذاك الفنان الكبير أسعد فضة ، وهو واحد من الفنانين العرب الذين تم اختيارهم عضو لجنة تحكيم لمهرجانات دولية ولمسابقات دولية للتأليف المسرحي ، ويعتبر أحد أهم المراجع المسرحية العربية ، فهو يتوفر على مكتبة فريدة ونادرة تكتنز بالقيم والنادر من الكتب والمراجع التي ربما لا تتوفر عليها أكبر مكتباتنا الرسمية ، وهو قاريء نهم ملم بكل الإصدارات الحديثة التي تضخها المكتبات العربية والأجنبية ، والحديث معه في شأن الكتب والإصدارات كثيرا ما يحرج مديات علمك بها ، فهو موسوعة مسرحية عالمية بحق ، وهو متابع وقاريء لكل الاتجاهات
المسرحية التجريبية الجديدة ومواظب بانتظام على أهم المكتبات الثقافية ولديه منها المميز والنادر .
بجانب ذلك ، يعتبر العزيز أحد أهم المصادر الثقافية والمسرحية في وطننا العربي ، فله الكثير من الإصدارات المسرحية ، تأليفا ودراسات وتوثيقا ومراجعات ، ويكفيه أنه أمين مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري منذ عام 1991 ، وله من خلالها إصدارات في الشعر والثقافة تضفي على روح الثقافة والفكر رونقها المتوهج الخلاق والمؤثر .
هو العزيز المبدع المتجدد ، الذي دائما ما يعيد النظر في كل ما يقوله ويكتبه ، ويتأمله بوصفه حالة معرفية لا ينبغي تجاوز حدودها وأطرافها ، ومن ثم يعيد إنتاجها من جديد ، وهكذا كان مع مسرحيته التي أعدها عن مسرحية ( الثمن ) للكاتب الأمريكي آرثر ميلر عام 1988 والتي أخرجها الفنان الكويتي الراحل فؤاد الشطي ، إذ لم يكتفي بإعدادها الأول حين اعتزم كتابتها من جديد لمركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي 2020، بإخراج الفنان الشاب يوسف الحشاش ، بل ذهب إلى قرائتها وفق هذا العصر ، ليضفي عليها رؤيته الجديدة ويجعلها أقرب إلى الحالة الكويتية منها إلى الحالة الأمريكية ، والتي عرى من خلالها التفكك الأسري الذي شكلته وابتلعته مجنزرات وبلدوزرات الجشع الرأسمالي الهائلة والفتكية ، وبات المجتمع الكويتي هو الضحية الأولى والثمن البخس الذي دفعته هذه الآلات الجهنمية كي تقضي على آخر نفس إنساني في هذا البيت .
هذه المسرحية التي قدمت على خشبة مسرح الدراما بمركز الشيخ جابر الثقافي بطريقة كلاسيكية بأداء لا يروم تحويل المعطى الكوميدي في العرض إلى حالة تجارية تنفيسية تبعده عن أهدافه الرئيسة التي أعد من أجلها ، والتي تجلى فيها الفنان السعودي الكبير عبدالله السدحان ( السمسار ) محور العرض وروحه الكوميدية المحببة بجانب الفنانين ناصر كرماني وشهاب جوهر والفنانة فاطمة الطباخ ، هذه المسرحية تأتي لتبرهن على أن أستاذنا الكبير العميد العزيز لم يزل بيفاعة الرؤية وقدرتها على التجدد باستمرار ، لذا لم أتردد حين دعاني لمشاهدتها ، خاصة وأنه بمثابة أحد أهم المشاعل
المضيئة في حياتي المسرحية ، والذي يتابعني عن كثب وعن بعد ويبدي رأيه في أغلب ما أكتب .
إلا أن الملفت في الأمر وبعد نهاية العرض ، اصطحبني نجله صديقي العزيز منقذ السريع إلى ديوانية السريع لرؤية الوالد العزيز والتحدث معه بشأن المسرحية ، لأفاجأ بالعزيز وهو يأخذني في حديثه نحو موسوعات المسرح والكتب وليفتح بصيرتي على أهم النتاجات المسرحية والثقافية الجديدة وليسجل إعجابه بالأجيال المبدعين الشباب من الكويت وبإصداراتهم الجديدة الملفتة للنظر والمثيرة لتساؤلات لا نهاية لها ، وليقف معي على الجهد الكبير الذي بذله ويبذله الشباب الكويتي في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي ، حيث أتاح لهم الأمير صباح الأحمد الصباح فرصة العمل فيه واستلام أهم الشئون الإدارية والفنية والتقنية والإتصالية فيه ، وذلك بعد أن تحسس سموه رغبتهم الشديدة في العمل وخدمة الثقافة في الكويت ، وليبرز من بين هؤلاء الشباب المثقفين الكتاب والتقنيين والإداريين المبدعين المهرة الذين خلقوا نظاما مختلفا ومميزا يرتقي بالشأن الثقافي والفني ليس في المركز والكويت فحسب إنما على الصعيد العربي .
هذا المركز يعد صرحا ثقافيا كبيرا ومميزا ومهما ، تولى الديوان الأميري الكويتي مشروعه الذي كلفه ما يربو على المليار دولار ، بما يعادل 350 مليون دينار كويتي ، وقام بتصميمه المهندس المعماري البريطاني روي فيليبس ، وتم إنجازه في مدة لا تتجاوز الإثنين والعشرين شهرا ، وهو يعد تحفة فنية من تحف الصروح الثقافية الحديثة ، ويقع في قلب مدينة الكويت على مساحة شاسعة تتجاوز 263ألف مترا مربعا ، وينطلق المشروع من الإرث الحضاري الزاخر لدولة الكويت ، ويضم المركز أربعة مبان بتصميم معماري فريد يجسدها كجواهر تتلألأ على أرض الكويت ، ويحتوي خمسة مسارح متنوعة الأحجام والأغراض ومهيأة لاستضافة مختلف العروض ، لإضافة إلى مسارح وقاعات أخرى متعددة الأغراض ومركز متخصص للوثائق التاريخية جميعها مجهزة بأحدث التقنيات الحديثة .
يتحدث العزيز عن الصرح الثقافي وكما لو أنه يرى أحلامه تتجسد وتتمرأى أمامه اللحظة ، أو كما لو أنه يحلم بتقديم مشروع ينتمي ويليق بهذه الإمكانات الحديثة ، يتحدث وهو يرى الأمل في الأجيال الشابة التي دعته إلى رابطة الكتاب الكويتية وإلى مركز جابر الثقافي من خلال حديث الإثنين لتحاوره في تجربته المسرحية الطويلة وفي أدق تفاصيلها ، وكم كان فرح العزيز وهو يتحدث عن هذا الأمل الذي أعادت ثقته في جيل قيل أنه لا علاقة بمن سبقه من الأجيال ليكتشف أنه على صلة قريبة جدا به .
العزيز السريع .. هو العميد الرائد المسرحي المثقف الكاتب الباحث المبدع الذي يصعب تقديره بأي ثمن .. هو المتجاوز لأي ثمن ، لأنه وطن يصعب على أي آلة جهنمية مساومته مهما بلغ بها الثمن مداه.
ليحفظكم الرحمن أيها العزيز وينعم عليكم بالصحة والعافية وطول العمر .. ياذخرنا وفخرنا ..
تعليقات