محمد الرميحي يصف إيران وكيف تبدو على الضفة الأخرى من الخليج : 40 سنة من الخسائر في ظل ولاية الفقيه
زاوية الكتابكتب د. محمد الرميحي فبراير 1, 2020, 2:16 م 470 مشاهدات 0
وأنت على الضفة الغربية في حوض الخليج تنظر إلى سلوك إيران السياسي بحيرة، هذا إذا كنت تملك موقفاً عقلانياً وتبحث عن تفسير للأحداث، أما إذا كان موقفك عاطفياً فأنت تنظر إليها بعداء، لأنك تشعر أنها تنظر إليك بالعين نفسها، وتقوم بالمساعدة النشطة في حصد أرواح إخوان لك عرب في أكثر من مكان دون هدف غير إشاعة كثير من الكراهية! المقصد هنا الدولة بأجهزتها - وليس الشعب - في وقتٍ ما قد تفكر أن التاريخ يعيد نفسه، ليس بالضرورة في التفاصيل، لكن في الكليات، بشكل مُعوق.
فإن كنت قد قرأت عن نتائج الثورة الفرنسية في بيئتها الأوروبية، التي أراقت كثيراً من الدماء في أوروبا الحديثة، فسوف تلاحظ كثيراً من التشابه. ذلك الوقت (نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر) شنت فرنسا ما يعرف اليوم بالحروب النابليونية في أكثر من مكان في القارة، تحت غطاء التبشير بآيديولوجيتها. وبعد صراع طويل صاحبته تكلفة إنسانية باهظة، انكفأت فرنسا على نفسها، ووجد مفكروها بعد كل تلك الخسائر التي ألمت بفرنسا أنها أفدح بكثير من أي أرباح قد تحققت مؤقتاً، لقد فاتها (كما يحدث لإيران اليوم) التفريق الدقيق بين تصدير الآيديولوجيا وقبول الآخرين للاستعمار!
أي تفكير عاقل يعرف أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه قد يتشابه مع اختلاف التفاصيل. ننظر إلى إيران في العقدين اللذين لحقا حركة مصدق بعد عام 1953 فنرى أن الشاه محمد رضا قد بدأ ما كان قد سماه بالثورة الإصلاحية، وكانت تعني إصلاحات في ملكية الأراضي وإصلاحات اجتماعية وثقافية، تفاعلت المجتمعات الإيرانية مع تلك الإصلاحات، الفئات المتوسطة والمستنيرة رحبت وساعدت في تطبيق تلك الإصلاحات، والفئات المتضررة من كبار أصحاب الأرض والإقطاعيين بالتحالف مع رجال الدين المتزمتين أو أكثرهم وقفت ممانعة لتك الإصلاحات وأثارت العامة، ما زاد الأمر تأزماً أن النظام الشاهنشاهي فضّل طريق القمع بدلاً من طريق الإقناع، والإجبار بدلاً من المشاركة، وهو الطريق الذي أوصل الجميع إلى أحداث فبراير (شباط) 1979، وبقية القصة معروفة.
الافتراض أن الثورة الإيرانية هي محافظة اجتماعياً، بدليل كل تلك الأوامر والنواهي التي لها علاقة بمصفوفة من القوانين الاجتماعية الناهية التي اتّبعها النظام، لكنها في مكان آخر ترى أنها «ثورية» بالمعنى المؤدي إلى رغبة في تصدير أفكارها، ليس إلى الجوار، بل إلى العالم، حاملة نفس تصور الثورة الفرنسية العالمية، التمدد واستعمار الآخرين، لكنها مرتدة إلى الخلف، ولا تحمل ولا تتشابه مع تلك الأفكار الفرنسية، هي مختلفة حيث نرى أن «القائد» «المرشد» الولي يعرف من شؤون الدنيا والآخرة ما لا يعرفه أحد غيره! وهو بالتالي شخص معصوم قريب إلى التقديس، وعلى الجميع الإذعان له، في الوقت أن الواقع غير ذلك، فالسياسة أخذ وعطاء، خطأ وصواب! وأهم درس حفظه القائد من دروس الشاه أن القمع يجب أن يفوق التسامح، كان الشاه يستخدم القمع بحدود، الولي يستخدم القمع دون دون حدود، ويوصي به في كل من العراق ولبنان أيضاً.
إن نظرنا إلى سوريا، فقد قام نظام الفقيه «في طريقه إلى تصدير الثورة»! بالمساعدة في قتل 650 ألف رجل وامرأة وطفل. نعم، على القارئ أن يعيد قراءة الرقم، وقد أصدرته وكالات دولية، وقالت عنه «رقم بتحفظ»! كل واحد من ذلك الرقم روح إنسانية، وقد تحولت مدن بكاملها إلى أشباح، وفرض نظام طغيان طائفي لا يشبه غيره، كما ساعدت طهران في قتل آلاف العراقيين، ما زلنا في انتظار الرقم الأخير! لأن القتل ما زال قائماً يومياً في ساحات وشوارع مدن العراق.
أما الوضع في اليمن فهو على أقل تقدير «مأساوي» تساعد آلة ولاية الفقيه على تفاقم المشاهد اللاإنساني يومياً! الثورة الفرنسية جهزت الجيوش من أجل خرافة نشر أفكارها في الجوار، والثورة الإيرانية جهزت الميليشيات لتحقيق ذلك الهدف نفسه، فأشاعت التوتر والحروب الأهلية.
إذا كانت الثورة الفرنسية قد استفادت جزئياً من التفكير العلمي في وضع عدد من القوانين الحديثة، ساعدت المجتمع الفرنسي في وقت لاحق على التقدم الحضاري، فالعكس تفعله ولاية الفقيه في إيران، لا مفر أنها تأخذ المجتمعات الإيرانية إلى ما قبل إصلاحات الشاه.
تقفز أجندة الفقيه في إيران من شعار إلى آخر، لقد استقرت لديها فكرة خاطئة تروّج لها، أنها مطاردة من الأميركيين، كما فعلوا في الوقوف أمام حركة مصدق عام 1953. تلك خرافة تاريخية، فنحن الآن أمام معلومات موثقة نشرت في السنوات الأخيرة، أن حركة مصدق كانت ناجحة، وأن محاولات الإنجليز والأميركان وقتها للوقوف في وجهها فشلت، ما أطاح بحركة مصدق في الشارع هو تحالف رجال الدين بقيادة رجل الدين النافذ وقتها آية الله كاشاني مع شريحة من الإقطاعيين، مستعينين بإثارة العوام، على أن حكم مصدق «شيوعي»! ذلك فصل وإن كتب فيه كثير، لا يريد حكام إيران أن يعترفوا به، توظيفاً لتحميل الغرب فشل مصدق، وأن ذلك ممكن أن يتكرر، لهذا فإن «الموت لأميركا» وأمثاله من الشعارات يشكل صيحة إيجابية لدى العامة، ويتحول ذلك الشعار للمطالبة بخروج القوات الأميركية من المنطقة، لأن المسكوت عنه في هذه الحال هو تحويل كل المنطقة إلى ساحة نفوذ للاحتلال الإيراني، مقطوراً على حاملي الأعلام الملونة من ميليشيات وأتباع، إن لم يكونوا عملاء، فهم على الأقل مجموعات مغرر بها.
الحيرة الكبرى عندما نقارن نتائج مسيرة 40 عاماً من «الولاية» ويتساءل المتابع ما الإنجازات التي حققها هذا النظام للشعوب الإيرانية؟ في الغالب سوف نرى صحيفة الحساب تحقق من الخسارة الفادحة أكثر مما فيها من الربح، فليس خافياً ما وصل إليه الاقتصاد الإيراني من تدهور، ولا يغيب عن البال التراجع الاجتماعي، ولا يستطيع المتابع أن يصرف النظر عن حجم الإعدامات والقتل في شوارع المدن الإيرانية، ولا حجم الهجرة الإيرانية إلى الخارج، كما لا يستطيع أحد أن يخفي التصحر الثقافي الذي ورّثته الثورة للجماهير الغفيرة من إيمان مطلق بالخرافات، مركبة على أساطير تُعلي من التفكير الغيبي.
الارتكان إلى أن الولايات المتحدة تسعى لقلب النظام هو تصور قريب إلى الهلوسة، فعالم اليوم لا يقبل بأي حال تغيير الأنظمة من الخارج، ذلك زمن قد انتهى، وكلما وصل النظام الإيراني إلى تلك القناعة قلّ هذا الحمل الثقيل من الضحايا في عدد من ساحات الشرق الأوسط المثقلة بالصراعات والدماء. إلا أن السؤال المنطقي هل يمكن لمتخذ القرار الحقيقي في طهران الركون إلى السلم، والاقتناع بأن كل الجهود المكلفة والثقيلة إنسانياً واقتصادياً يمكن أن تُوفر؟! لا أشك أن البعض في طهران يعرف تلك الطاقة المهدرة، إلا أن هيكلية ما ركب من آليات السلطة في إيران «الشمولية» تحول دون ترجمة القناعات إلى أفعال عند ذلك البعض! ذلك مصدر حيرتنا الأكبر!!
آخر الكلام:
عندما قام النظام النازي في ألمانيا بإشاعة الكراهية ضد الآخرين، سرت تلك الكراهية للناس العاديين، فقامت بعض القرى الألمانية تطوعاً منهم بحرق المختلفين أحياء!! ذلك ما تفعله الأنظمة عند إشاعة الكراهية، فتنطلق آليات غير منضبطة، لتعم الجميع!!
تعليقات