محمد الرميحي يفسر مقتل قاسم سليماني من حيث التوقيت والأهداف

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 656 مشاهدات 0


كيف يمكن تفسير مقتل قاسم سليماني في هذا التوقيت؟ وما الأهداف المرادة من ذلك الحدث؟ وكيف سيكون رد الفعل الإيراني؟ تلك أسئلة متشعبة تقابلها افتراضات عديدة. المشهد الصراعي «الأميركي- الإيراني» مشهد عاش معنا عقوداً، وله علاقة بالتاريخ وأيضاً بالتصورات المسبقة لكل منهما عن الآخر المبالغ فيها وبعضها غير منطقي. طرأ على ذلك المشهد في السنوات الأخيرة تصاعد الضغوط الاقتصادية والسياسية التي فرضتها إدارة الرئيس ترمب بعد خروجها من اتفاق 15 يوليو (تموز) 2015 النووي. منذ ذلك الحين ومحاولات إيرانية مضادة لفتح منفذ في تلك العقوبات، بدأت بتهديد الأوروبيين بالعودة إلى التخصيب النووي واتخذت خطوات فعلية، ثم القيام بعدد من الاستفزازات من بينها إسقاط طائرة أميركية مسيّرة ثم الاعتداء على عدد من سفن النفط، بل واختطاف بعضها، وأخيراً إرسال صواريخ لضرب أهم منشآت نفط في الشرق الأوسط في بقيق شرق السعودية. كان أمل المخطط الإيراني من التسخين إرضاء الجمهور المحلي وأيضاً فتح باب ولو خلفياً لنوع من التفاوض، لأن العقوبات الاقتصادية عضّت المعدة الإيرانية بقسوة وبدأ شعبها في التململ. في البداية تصورت طهران أن دونالد ترمب لن يُجدَّد له، وتبنى بعض منظّريها «الصبر الاستراتيجي»، ولكنّ هذا الأمل تراجع بعد تصاعد شعبية الرئيس الأميركي في الداخل وارتفاع نسبة احتمال عودته، الأمر الذي أجبر النظام الإيراني على التصعيد أكثر. ويمكن إيجاز تطور الحالة الصراعية المتأخرة في سبع نقاط أساسية:
أولاً- أربك خطط الجانب الإيراني في التصعيد المبرمج منخفض التكلفة قضيتان متشابكتان هما الحراك الشعبي اللبناني والحراك الشعبي العراقي اللذان استمرا شهوراً وأثّرا بشكل خاص على المشهد الإيراني الداخلي. كان الرفض للوجود الإيراني في الحراك الشعبي العراقي واضحاً في الشعار وفي حرق المقرات الإيرانية، وفي الحراك اللبناني مستتراً، وأصبح ممكناً أن تتبخر كل الجهود الإيرانية التي بذلت المال والدم في هاتين الساحتين في غضون أشهر قليلة، الرسالة واضحة «مشروعكم لا يناسبنا»!
ثانياً - لمواجهة ذلك بدأت إيران الإخلال بالتوافق بينها وبين الولايات المتحدة المرسوم بشكل دقيق في العراق. كان هناك «تقسيم عمل» بين واشنطن وطهران في الساحة العراقية، إلا أن إطفاء الحراك في العراق كان يحتاج إلى موقف تصعيدي بعد أن فشلت حملة اغتيال قادة المتظاهرين، وظهر أن الشعب العراقي وأغلب شيعته يضعون اللوم كله فيما وصلوا إليه من عوز وفساد على التدخل الإيراني في شؤونهم. بدأ الإخلال عن طريق عمليات تحرش من قوى عراقية تابعة لإيران ببعض القواعد الأميركية وأدت إلى سقوط قتلى وأيضاً ردّات فعل من الجانب الأميركي، وصارت التفاهمات تتهاوى بسرعة.
ثالثاً - ما أسقط التفاهمات نهائياً هي محاولة الاعتداء على السفارة الأميركية في بغداد «ربما كانت تلك هي غلطة الشاطر». كان الافتراض الإيراني إعادة سيناريو «جيمي كارتر واعتقال رجال السفارة في طهران، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 - يناير (كانون الثاني) 1981» الذي أدى إلى ما عرفت بأزمة رهائن السفارة وحرمان كارتر من ولاية ثانية للرئاسة. كان ذلك العمل تقديراً غير حصيف؛ لما يمكن أن يطلقه من هواجس وذكريات مُرّة لدى الأميركيين الذين شعروا بإذلال لم يذوقوه في تاريخهم. هذا العمل أطلق شرارة اغتيال قاسم سليماني، أما جمال جعفر محمد علي المعروف بـ«أبو مهدي المهندس» فقد كان بالصدفة موجوداً في المكان، وتاريخه مشبع بأعمال الإرهاب، ومنها محاولة اغتيال أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد، والتي حوكم فيها في ثلاث درجات قضائية وأُدين، ولكنه هرب في الأيام الأولى للاحتلال العراقي للكويت عام 1990 وبعدها اعترف شخصياً «وفخوراً» في شريط على «يوتيوب» بأنه شارك في تلك المحاولة الآثمة!
رابعاً - قاسم سليماني حاجة إيرانية سياسية استُخدم للقمع المفرط في الداخل والخارج وإدارة الأجهزة الموازية. استثمر النظام الإيراني في «صورة» سليماني حتى أصبح في نظر العامة بطلاً رغم مظاهر إخفاقه في العراق ولبنان، هذه الصورة خلقها الإعلام الإيراني وبعض الإعلام العربي المزيِّن للصورة الإيرانية وبعض من الإعلام العالمي والغربي، لذلك أصبح مقتله يشكّل خسارة فادحة في الشكل للنظام، ويستفاد منه من أجل حشد الرأي العام الإيراني الذي بدأت فيه مظاهر معارضة جادة في السنوات الأخيرة. أما من حيث الموضوع فالنفوذ الإيراني في كلٍّ من العراق وسوريا ولبنان واليمن وفي غيرها خلقته أولاً آلة لها معطيات آيديولوجية ويقف وراء تنفيذها «الحرس الثوري» وينظّر لها المرشد «المعصوم» ومن حوله من قادة النظام، وقد صُرف عليها جهد سياسي ومالي ضخم، وثانياً خواء الدولة «المحتلة» وفشلها في صيانة الوطن، فتسرب إليها نفوذ إيران بسهولة. فقد سليماني ليس بالخسارة الكبرى على أرض الواقع، إذ كان في الأغلب منفّذاً لسياسات قمعية، وهو قادم من تدريب ميليشياوي ضحل الخبرة العسكرية، وما الضجة التي يفتعلها النظام جراء مقتله إلا مسايرة لتلك الصورة غير الواقعية التي خُلقت له بشكل رمزي. أما الخسارة على المستوى الاستراتيجي فهو الوعي في كلٍّ من العراق ولبنان الذي أدخل المشروع الإيراني في مأزق.
خامساً - خلق مقتل سليماني فرصة تمثلت في مشهد تأبينه في طهران، وكان رمزياً وجود نعشين؛ واحد ملفوف بالعلم الإيراني «سليماني» وآخر ملفوف بالعلم العراقي «أبو مهدي»، لإظهار «الإخاء» بين الشعبين! والذي ترفضه الجماهير العراقية معتبرةً، عن حق، أنه نفوذ استعماري، إلا أن المناسبة كانت فرصة لشد العصب لدى الجماهير العاطفية في أكثر من مكان، ذاك مؤقت وغير قابل للاستمرار.
سادساً - يشعر كثير من العرب بأن «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري» مكلَّف بالعمليات الخارجية والسرية خارج الحدود الإيرانية وفي الغالب على الأرض العربية، وهو اسم على غير مسمى؛ إذ ما يربطه بالقدس ليس أكثر من «الكوفية» الفلسطينية التي يعتمرها في بعض الأوقات قاسم سليماني والموقف غير البصير لبعض قادة «حماس». الفيلق لم يقترب من مدينة القدس أو من أرض فلسطين. كل بطولاته هي شق الصف الوطني العراقي والتحكم في مقدرات العراق بواسطة سياسيين ومن استطاع تجنيدهم من العراقيين، أما تهجير القرى والمدن السورية والمساعدة الكبرى لنظام متوحش ضد شعبه وتحويل الحواضر السورية إلى تراب أسود، فذلك مشهود وموثّق، كما ساعد الفيلق بكل نشاط على تحويل لبنان من بلد جميل وجاذب إلى بلد على مقربة الإفلاس وشعب تحت طائلة سلاح غير رسمي. أما خبراؤه وسلاحه فقد أفقروا اليمن وأرجعوه إلى قبل قرون من الزمان. تلك جُلّ «انتصارات فيلق القدس»! وليس غيرها.
سابعاً - العواقب: معظم التهديدات التي أعقبت مقتل سليماني هي للاستهلاك المؤقت وتقع في خانة بيع الوهم بما فيها رفع إصبع السبابة في بيروت! ولن يكون هناك تصعيد صادر من إيران إلا في حدوده الدنيا، كما استخدام الأذرع العربية لإشاعة شيء من الفوضى ومطالبات بإخراج الأميركيين! مقتل سليماني هو عملية أميركية يطلق عليها «Call his Bluff»، أي تحدي الادعاء، وقد ثبت أن إيران لها قدرة على قمع الشعوب وهشاشة في مواجهة الحروب!
آخر الكلام:
من الأكاذيب التي راجت أن إيران هي التي أنهت وجود «داعش» في العراق. الحقيقة أن ذلك الجهد كان دولياً، وما المطالبة بإخراج الأميركيين من العراق إلا تمهيد لعودة «داعش» وأمثاله! ربما هي الطلقة الأخيرة في جراب طهران!

تعليقات

اكتب تعليقك