محمد الفيلي: 70 عاماً على ولادة الدستور الهندي

زاوية الكتاب

كتب الآن 442 مشاهدات 0


فكرة الدساتير قديمة قدم وجود الجماعات الإنسانية المنظمة. ففي كل جماعة سياسية توجد ظاهرة السلطة، وهي تحتاج إلى تنظيم لتحديد من يحكم وكيف يحكم. 

والانتقال إلى فكرة الدولة الحديثة واعتبارها كيانا مؤسسا، تحكمه قواعد تعزل وجوده القانوني عن الأشخاص الذين يديرونه، أعطى للدساتير وظيفة إضافية وزاد من أهمية وجودها.

أضحت الدولة كيانا اعتباريا يحتاج إلى قواعد توضح، لمن يعيش في إطاره ويتعامل معه، وطبيعته، وحدود اختصاصاته، وأسلوب إدارته وحقوق وواجبات من يديرونه ومن يتعاملون معه.

الدستور ليس فقط قانونا أساسيا يحدد شكل الدولة وأساس وجود السلطة فيها وحدود هذه السلطة، وأيضا إلى حد ما شهادة ميلاد الدولة. كما شهادة الميلاد الدستور يتضمن العناصر التي تساعد في تحديد الملامح الأساسية للدولة.

وتمتاز الهند بتنوع مكوناتها الجغرافية، فالغابات موجودة فيها، كما الصحراء والجبال فيها كما السواحل. هي موطن حضارات متعددة استطاعت أن تستوعب المهاجرين اليها، بل حتى من أتى ليغزوها لتصبغه بصبغتها، وتستفيد من اللون الذي أتى به، فنجحت في أن تخلق من تعدد الألوان لوحة جميلة، ونجحت في أن تستفيد من تعدد النغمات كي تقدم معزوفة موسيقية لطيفة.

وأظن أن نجاحها وتفوقها يكمنان في المحافظة على اعتبار أن التعدد فيها هو مصدر الثراء. نموذج الدولة الهندية يلفت نظر المراقب الدستوري والسياسي، فتعدد الحبات وتنوع الأحجار استوعبه خيط جعل القلادة والسبحة كيانا قائما بذاته.

الخيط الذي جمع الأحجار المتعددة المتنوعة هو القومية الهندية. ينتمي للهند مسلم وهندوسي ومسيحي وبوذي، أو من يدين بغير ذلك من الديانات.

هذه القومية لا تقوم على اللغة، فاللغات متعددة، ولا تقوم على الانتماء العرقي، فالأعراق متعددة، في نهاية المطاف الخيط الذي يجمع حبات المسبحة مجدول بإحساس بالانتماء لبعض الماضي وكثير من آمال المستقبل. 

واقع الهند كان أمام من يريد صناعة دستورها. بدأت المداولات لتحديد ملامح الدستور الهندي في شهر ديسمبر عام 1946. وكانت أعمال التفكير والتدبير تدور في إطار واقع مرتبط بإرث الوجود البريطاني، وفي إطار التساؤل عن وضع شبه القارة الهندية بعد مغادرة بريطانيا. 

كان أمام صنّاع الدستور أيضا واقع ليس بالضرورة مثاليا في كل تفاصيله، واقع تشكلت ملامحه في الماضي وهو يلبس رداء المقدس أحيانا.

وكان أمام واضعي الدستور أيضا مستقبل مأمول يلزم التطلع له، وجعل الوصول إليه هدفا. 

وقد عبّر د. بي. آر. امبيدكار، رئيس لجنة صياغة الدستور، عن هذه الهواجس في خطاب ألقاه في نوفمبر 1949، قبل إقرار الدستور بقوله "في يوم 26 يناير 1950 – يوم دخول الدستور حيز النفاذ – سنكون على وشك الدخول في حياة مليئة بالتناقضات. في مجال السياسة سيكون مساواة، أما في مجال الحياة الاجتماعية والاقتصادية فسيكون لدينا عدم مساواة. في مجال السياسة سنعترف بمبدأ صوت واحد لكل مواطن وقيمة متساوية لكافة الأصوات. أما في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية فستستمر مظاهر عدم المساواة بين المواطنين، بسبب تركيبتنا الاجتماعية والاقتصادية". 

من المنطقي أن نتأمل في هذا الدستور الذي تم إقراره في مثل هذا اليوم... 26 نوفمبر عام 1949، أي منذ سبعين عاما، كيف تم صنعه كي يتلاءم الرداء مع الجسد الذي سيلبسه؟ وهل نجح هذا الدستور في توفير السبل كي تبحر السفينة ناحية المستقبل المأمول؟

ملامح الدستور الهندي

واقع الهند المستند لتاريخها جعل التوجه للشكل الاتحادي أمرا حتميا يتجاوز الخيار. وإذا كان الدستور يوضح في صلبه اختصاصات الدولة الاتحادية واختصاصات الولايات المكونة للاتحاد، إلا أنه يسمح لدولة الاتحاد بالتدخل إذا قررت الحكومة المركزية أن الوضع يدعو إلى ذلك. وهو جعل للولايات وجودا داخل مؤسسات الدولة الاتحادية، فجعل البرلمان من غرفتين إحداهما مشكّلة من ممثلي الولايات والأخرى لتمثيل شعب الاتحاد. وجعل نائب رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس الولايات.

وهذا النمط يذكّرنا الى حد ما بالبرلمان الأميركي، ولعل هذا من تبعات النظام الفدرالي. 

من حيث العلاقة بين السلطات كان من المنطقي الأخذ بالنظام البرلماني. وهنا يبتعد الدستور الهندي عن النموذج الأميركي ليقترب الى حد ما من النموذج البريطاني. النموذج البرلماني الهندي نموذج جمهوري، ولذلك جعل انتخاب الرئيس من البرلمان، مبتعدا عن النموذج الفرنسي المعدل الذي يسمح واقعيا لرئيس الجمهورية بالاتكاء على المشروعية الشعبية، فهو منتخب من الشعب مباشرة، وبالتالي يمكنه أن يكون ندا للبرلمان في بعض الفرضيات. ولذلك يصبح من المنطقي أن تكون الحكومة وفق الدستور الهندي مسؤولة أمام البرلمان، مع أنها معيّنة من رئيس الجمهورية، فهو في الأصل معيّن من البرلمان، وعند اختيار مجلس الوزراء يكون ذلك ربطا بالأغلبية البرلمانية، كما هو منطق النظام البرلماني التقليدي. 

حرص الدستور على تقرير دور مهم للقضاء، فقد خصص الباب الرابع منه للقضاء الاتحادي، كما خصص الفصل الخامس من الباب السادس للقضاء في الولايات. ونلاحظ أن النمط الاتحادي يقود منطقيا للتوجه لأسلوب المحكمة العليا. والمحكمة العليا، وإن كانت لا تتدخل في أعمال السلطة التنفيذية، إلا أنها تستطيع فرض مبدأ سمو الدستور الاتحادي.

أما عن منظومة الحقوق والحريات، فقد أخذ الدستور الهندي بالحقوق والحريات وفق النمط الفردي الليبرالي، وهذا نجده في الباب الثالث منه، وهو معنون بالحقوق الأساسية، وأخذ أيضا بالتوجه الاجتماعي الداعي إلى تدخّل الدولة لتوفير السبل المادية التي تساعد الفرد على الوصول إلى المساواة الفعلية، وهذا جوهر أحكام الباب الرابع منه، وعنوانه المبادئ التوجيهية لسياسة الدولة. 

وقد واجه الدستور الهندي مشكلة الهوية بطريقة واقعية، فتعددية مكونات الشعب الهندي تجعل أي اتكاء للدولة على هوية دينية بذاتها أو عرقية محددة مدعاة للإقصاء، لأن بقية المكونات ستحسّ بأنها مستبعدة، ولذلك توجه هذا الدستور لفكرة العلمانية، وهي علمانية لا تعتبر نفسها في خصومة مع الهويات الدينية، كما هي حال بعض العلمانيات الأوربية، بل هي علمانية تدعو الدولة إلى الوقوف على مسافة متساوية من جميع المكونات من خلال احترام الخصوصية، فيغدو الدين لمن يدين به والوطن للجميع. 

خصوصية الحالة الهندية أوجبت على واضع الدستور الهندي التعامل مع تفاصيل متعددة، ووضع عدد مهم من الأحكام الانتقالية. والتأثر بالمدرسة الأنجلو سكسونية جعل واضع الدستور يستخدم الفقرات التفسيرية ربطا ببعض المواد. كل هذا جعلنا أمام دستور مطول هو اليوم أطول دستور لدولة عضو في الأمم المتحدة.

وطوله لا يتمثل بعدد المواد فقط، وهي 395، لكن في حجم بعضها مع التفسيرات والجداول الملحقة به. ومن المنطقي أن يترتب على كثرة التفاصيل فيه كثرة التعديلات على أحكامه، وقد بلغت حتى الآن 124 تعديلا. 

ومن المتصور تماما أن تواجه الدول في حياتها ظروفا وأحوالا متعددة قد تجعلها تتساءل عن اقترابها أو ابتعادها عن الأهداف التي سطرها مؤسسوها في وثيقة إنشائها، وهنا يصبح من المنطقي أن نضع هذه الأهداف في الواجهة كي نحاكم أوضاع الواقع القائم في إطار الأهداف المأمولة.

ولعل هذا من أهداف وجود الدساتير، فهي نصوص يضعها الحكماء في لحظات الهدوء كي تحمينا من الاندفاع في لحظات الغضب والانفعال. وديباجة الدستور الهندي تلخّص تطلعات الآباء المؤسسين الذين صاغوه، وقد أتت على النحو التالي

"نحن شعب الهند، لقد قررنا رسميا، وبكل رزانة ووقار، أن شكل الهند دولة موحدة في جمهورية ديمقراطية علمانية اشتراكية ذات سيادة واستقلال، وأن نضمن لجميع مواطنيها: العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحرية الفكر والتعبير والاعتقاد والإيمان والعبادة، والمساواة في الأوضاع والفرص. وأن نعزز فيما بينهم جميعا، الأخوة وضمان كرامة الفرد ووحدة وسلامة الأمة. كما قررنا في جمعيتنا الدستورية، المنعقدة في هذا اليوم الموافق للسادس والعشرين من شهر نوفمبر عام 1949، أن نتبنى ونعتمد ونمنح نفسنا هذا الدستور".

واليوم بعد مرور سبعين عاما على خطاب الآباء المؤسسين، من المنطقي أن تكون وقفات التأمل والتقييم عند أبناء الشعب الهندي الصديق، ومن جانبنا كشعب كويتي لا يسعنا إلا أن نتمنى لهم دوام التوفيق، وعلى كل حال نحن نتضامن معهم في الاحتفال بالدستور بهذا الشهر..... فدستورنا تم التصديق عليه في نوفمبر أيضا.... في 11 نوفمبر 1962، أي منذ 57 عاما.

تعليقات

اكتب تعليقك