#جريدة_الآن جري سالم الجري: انقلبت عبادة تفريج كربة الأخ المسلم إلى عذرٍ للتحشيد القبلي

زاوية الكتاب

كتب جري سالم الجري 951 مشاهدات 0


الجريدة

"دفع الدية" موضوع حساس، ولكن لا يحكمه إلا الشرع الإسلامي والنظام الحكومي لتصويب هدفه وتصحيح مساره؛ ولكن للأسف، انقلبت عبادة "تفريج كربة الأخ المسلم بدفع الدية" إلى عذرٍ للتحشيد القبلي، ومبرر للتفاخر العنصري، فهل هذا كله ضد معنى الوطنية؟ وهل المواطن الذي يستصرخ "يستفزع" أبناء قبيلته هو معاند للوطنية؟ وما الاقتراحات التشريعية لتحسين أداء جمع الدية؟ وما مخاطرها؟

أولا، في زمن ما قبل النفط، كانت القبيلة هي الدولة بحد ذاتها، تكفل أبناءها وتحارب غيرها لبقائها، فلكل قبيلة رئيسها وهو شيخها؛ وأهازيجها المعادلة للنشيد الوطني، ولها قوانينها وهي "سلوُمَها"، كما تضبطها عادات وتقاليد داخلية وخارجية خاصة فيها، بل لديها منبرها الإعلامي المتمثل بشعرائها، ولا تسمح بالزيجات إلا بشروط معينة لحرصها على أن تؤدي زواجات أبنائها دورها السياسي. 

ولا ينسى المستقرئ لتاريخ شبه الجزيرة العربية أن في طردك من أي قبيلة موتك المحتوم أو سلبك المشؤوم، إما تأتيك المنية من الظمأ أو من خنجر الصعاليك، فإن الكل بذلك الزمان من العربان، يعلمون الامتيازات الهائلة التي يُرغب فيها الشيخ أتباعه مقابل ولائهم لسيادته وانصياعهم لأوامره وانتهائهم بنواهيه. 

ولا تبقى عضويتهم كأفراد في القبيلة إلا حينما يحاكون بعضهم بأساليب تعبير متقاربة، وبحصر ألسنتهم بمفردات محدودة متشابهة، ونبرات صوت متطابقة، وحتى طريقة ارتداء متماثلة للعقال وغيره، وهذا لا يعني تعطيلا لعقولهم، لكنها فطرة بشرية، سنها الله عز وجل بقوله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، فحتى بعد نشوء الأوطان، استمرت الأنفس موطنة على دأب، "سَلُوم"، أجدادها. 

لكن البطاقات المدنية الآن موجودة، والتجنيد إلزامي للمعسكر الحكومي، والاقتصاد الداخلي موحد لسائر أبناء البلد (معدل دخل الفرد السنوي)، ناهيك عن أن البرلمان أبوابه مفتوحة للكل، لذلك فمن المؤكد تماماً، أنه سيتم تدريجياً ومن غير قصد، تهاون العضوية القبلية في امتيازاتها، وتخفيف عقوبة معاندة أبنائها لها، وهذا ما يفسر تفكك الانتماء القبلي الذي نراه من طوع بعض أبنائها. ولكن نرجع للسؤال الأول، هل هي ضد الدولة؟ قطعاً لا، بل هي بالاستخدام الصحيح، تكون قوة عظيمة للوطن، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، كان في الجهاد يحيي الاعتزاز القبلي بين الأوس والخزرج في خلق تسابق بينهم لشرف نصرة الدين بالغزوات، وكذلك ينبغي توظيف القبلية، فهي في هذا الزمان لم تعد دولة متنقلة متجسدة بقافلة نجاة في الصحراء، ولكنها أصبحت جزءاً من هوية مجموعة من الناس، تشفرت بقلوبهم. والآن ابنهم قتل مواطناً، ويريد من باقي المواطنين والقبائل دفع الدية، فما العمل؟ هل تحاسب سائر القبلية؟ قطعا لا. وهل من الجيد أن تخصص رابطة باسم قبيلة معينة ترخص من الشؤون وتكون بمراقبة حكومية؟ نعم في حال أردنا شرخ الوطن، فتكتل تنظيمي ورسمي كهذا يرفع الانتماء القبلي فوق الحس الوطني لأفراد القبيلة، مما سيحث السلوك نفسه على الظهور في أبناء القبائل الأخرى التي تحس بالغبن، لذلك ينبغي حصر جمع الديات داخل جهاز بيت الزكاة فقط، لئلا يضطر أبناء القبيلة شكر باقي القبائل، بل يكتفون بشكر المواطنين إخوانهم المتبرعين فحسب، ولكن هل سينقذ المواطنون ابن قبيلة كان أعيانها يحتكرون "الوسائط" لهم؟ تساؤلات خبيثة ومانعة للخير كهذه لا يكون سببها إلا ارتخاء الحكومة بشأن خطورة العنصرية القبلية في الترشيحات البرلمانية والوظيفية وحتى مناصب جمعيات المحافظات، وليبقى الشرف القبلي إرثا مشروعا، والمجد الوطني واجبا مفروضا.

تعليقات

اكتب تعليقك