د. محمد الرميحي يكتب عن ابتُلاء المجتمعات العربية بقيادات رفعت شعار «لا أُريكم إلا ما أرى»

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 1095 مشاهدات 0


هل للجهل ثمن؟ ومَن فكَّر فينا على المستوى الشخصي، والمستوى الوطني أن يحسب «تكلفة الجهل»؟ وأنا أراقب ما يحدث في جنوب العراق من انتفاضة واسعة ضد كل الحيف الواقع على المواطن العراقي العادي، تداعى إلى ذهني أن معظم ما نعاني منه في منطقتنا العربية، وما ندفعه من أثمان باهظة من الفرص الضائعة للتنمية والتطور والاستقرار، وما نلاقيه من العنت السياسي، سببه الرئيسي هو الجهل. الجهل له ثمن، وهو ثمن أكبر بكثير من مردود العلم. لقد قام صدام حسين بإدارة العراق بطريقة «جاهلة» فاختصر العراق في زعامته وشخصه، وفشل فشلاً ذريعاً في إنشاء مشروع نهضوي للعراق، ونعرف النتيجة التي وصل إليها هو ونظامه. ومن الخطأ تسمية البيروقراطية القمعية في العراق «نظاماً»، كانت ربما نظاماً «قهرياً»، وجاء من بعده نظام يعتاش على أفكار للدولة دعوية وضبابية، وشعارات باهتة الألوان، لكنها لم تُطعم العراقيين لا راحة ولا خدمات ولا حتى أمناً، فجاءت انتفاضة الجنوب التي راقبناها الأسبوع الماضي، وهي سلسلة سوف تتفاقم في المستقبل، وإن هدأت لفترة، وتأخذ أشكالاً قد لا نتوقعها اليوم، لأن هناك في الحكم العراقي الحالي (أنا أستخدم المفاهيم بشكل مجازي)، من ليس لديه مشروع للدولة الحديثة؛ بعض القوى لديها مشروع غامض، هو أن تتبع ما يقوم به حكام إيران من سياسات، في تغييب عقل الناس، فهناك ولاية فقيه، أيضاً منزوعة من المشروع الحديث للدولة، وهنا «مرجعية» ليست لها علاقة بنظام حكم حديث، فالعراق بين «نصوص» في الدستور شبه حديثة ولكن معطَّلة، وبين ممارسة «شبه قمعية» متعددة الرؤوس، فالمشوار إلى دولة حديثة تعددية ومدنية، يُحترم فيها الموطن ويسود القانون العادل على الجميع، لا يزال طويلاً، وسوف يكون معبَّداً بانتفاضات وقلق دائم، وغياب الأمن ومعه التنمية، مع نقص مزمن في الخدمات الحديثة من مياه نظيفة وكهرباء دائمة ومدارس وفرص عمل! في سوريا الأمر وإن اختلف في الشكل، فهو في العمق متشابه، حكم أفضل ما يستطيع أن يقوم به هو خلق أجهزة رقابية تحصي على الناس أنفاسهم، أدخلت سوريا في حرب أهلية ضروس، نعرف كيف بدأت، ولا نستطيع أن نتكهن كيف ستنتهي، أما ما هو أمامنا، فهو خرائب، ومدن وهجرة قسرية، وأمان تام على الحدود مع إسرائيل، التي ضجّ إعلام النظام بـ«مقاومتها»! عجيب أمرنا نحن العرب في هذا العصر، هناك إصرار على تقديم الجهل في إدارة المجتمعات على العلم. كنت وما زلت أستغرب أن يحكم شعباً عربياً ولأربعين عاماً متوالية شخص مثل معمر القذافي، لا أقصد هنا التعليق على الشخص، فالموت عندي له حرمته، ولكنّ شيئاً ما يجب أن يبحث في «عقلنا السياسي» ليبرر قبول شعب متحضر فيه عدد كبير من المتعلمين والراشدين، طوال هذه المدة، بشخصية «ملتبسة» في السلوك وفي الأفكار وفي التعامل الداخلي والخارجي، ويبدو في الواقع أنه منقطع عن العالم، مصاب بهلوسة «ملك ملوك أفريقيا»! ولم أكتب هذا الآن لأنه اختفى عن المسرح، ولكني أشرت إليه في وقت سابق، عندما كان الرجل في السلطة، واقتطفت وقتها شعاراً سياسياً ليبياً انطلق أيام الملك إدريس السنوسي، حيث سارت المظاهرات تقول «إبليس ولا إدريس» وقلت بالحرف الواحد «يبدو أن الله قد استجاب لدعائهم»! لقد ترك الرجل بلاداً غنية بالموارد تخوض في الفوضى، كنت وغيري في حيرة؛ كيف يمكن لعقلاء من الإخوة الليبيين أن يخدموا على أعلى مستوى سياسة هذا الرجل القريب إلى العته؟! وهكذا فإن الجهل في إدارة المجتمعات مستمر في أركان كثيرة من عالمنا العربي، خذْ مثلاً هذا الكم من «الدعاة»، حراس الأفكار العتيقة الذين يعتقدون أنهم يمثلون أو ينطقون باسم الإسلام، الدين العظيم الذي يعتنقه ملايين من البشر، باختلاف ثقافاتهم ولغاتهم وطريقة حياتهم! يقدمون الإسلام وتعاليمه على أنها أساساً «زهدٌ في الدنيا»، وينشرون الأفكار الغيبية والخرافة، مع أن مقصد الإسلام هو إعمار الأرض.
الأمر يحتاج من الجميع إلى التوقف للتفكير في الكثير من تصرفاتنا سواء الشخصية أو العامة التي تناصب العقل السليم العداء، وتبحر في الجهل عند اتخاذ القرار، وتستصغر التفكير العلمي. لقد ابتُليت مجتمعاتنا بقيادات مقتنعة بأنها «تفهم أكثر من كل الشعب» و«لا أُريكم إلا ما أرى» وشعارها «أنا أريد، من يستطيع أن يقول لي لا...؟»، بمثل هذه القيادات البعيدة عن فهم آليات التفكير العلمي، وطرق التنظيم الحديث في إدارة المجتمعات، أوقعت شعوبها في صراعات نتج عنها الفقر والفاقة والحروب. لست من المقتنعين كثيراً بأن «الحكم الديكتاتوري» بالمعنى العام، هو سبب التخلف للشعوب، ولكن تخلف الشعوب ناتج عن «حكم الجهل»، فهناك ديكتاتوريات بألوان مختلفة قدمت لشعوبها التنمية ووضعتها في صدارة الشعوب الحديثة، واستبدلت بـ«شرعية التمثيل»! «شرعية الإنجاز»، مثلاً الصين بلاد لا يمكن وصفها بالديمقراطية، إلا أن الحكم هناك لديه مشروع، وهو بشكل عام «خدمة المجتمع ورفاهيته»، فتقدمت اقتصادياً، وفي مكان آخر في بعض بلدان أفريقيا أيضاً، لا يمكن توصيفها بأنها «ديمقراطية» بالمعنى الحديث للمفهوم، ولكنها استطاعت أن تقدم مشروعاً وطنياً، رفع من دخل المواطن في المقام الأول، وحسّن الخدمات المقدمة إليه من تعليم وخدمات صحية وبنية تحتية، الفرق في استعراض كل تلك التجارب أن هناك بلاداً يحكمها السعي لهدف محدد ومشروع للنهضة، وهو إنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية القائمة على خطط علمية ويتم تنفيذها بكل قدرة بعيداً عن الكثير من الفساد، وأخرى، بصرف النظر عن الشكل الخارجي للنظام، تفتقر إلى الخطط المبنية على العلم لإنجاز المهمات الوطنية من خلال مشروع مستقبلي مقنع، وتركن إلى الشعارات والخرافات، وهي شعارات سياسية واجتماعية وثقافية، مبنية على الجهل، ومفرَّغة من محتواها، تُلقَّن للجماهير كمسكنات بديلة للحكم الرشيد. ذلك هو الجهل في حكم الشعوب، الذي يجعل من العراقي اليوم يخرج عن صمته بسبب أنه ضاق ذرعاً بكل تلك الشعارات والتي تجعل الشعب السوري يقدم كل تلك التضحيات للتخلص من حكم الجهل، وكذلك في اليمن التي تتصف قواها التي تحتل الدولة بأنها غائبة عن العقل وضاربة في الجهل، لأنها تبغي أن تقدم لشعب اليمن الكثير من التجهيل! فالجهل في نهاية الأمر له ثمن باهظ تدفعه الشعوب والأفراد على حدٍّ سواء.

آخر الكلام: أصبحت إدارة المجتمعات علماً له قواعد صارمة وكونية، أما تلك التي تُدار من خلال الجهل، فتدفع ثمناً باهظاً يسمى التخلف، والوقوف آخر الصف. العلم هو السلاح الأكثر مضاءً في عالمنا اليوم.

تعليقات

اكتب تعليقك