التفوق.. وصناعة التاريخ.. بقلم محمد المقاطع
زاوية الكتابكتب مايو 21, 2018, 11:58 م 3691 مشاهدات 0
القبس
الديوانية- التفوق.. وصناعة التاريخ
د. محمد المقاطع
في مراحل تطور الدول، ترتقي الدول أو الأمم إلى حالة من التقدم المشهود في مختلف نواحي حياتها، وفي مقدمتها الجوانب الفكرية والثقافية والسياسية والعلمية، فتنتعش حركة الإبداع في التأليف وفي الرواج الفكري الذي يتيح لشعوب هذه الدول أن تنهل من منابع العلم، وتستفيد من فنون الحياة وتجاربها بصورة سلسة ومتاحة للجميع، فيتطور الاقتصاد، ويرتفع مستوى الحياة المعيشية، وتزدهر حركة العمران، ويتنامى التبادل التجاري مع الدول المحيطة والبعيدة، ويتهافت الناس على هذه الدولة طلباً لما لديها من علم، وحرصاً على اكتساب ما لديها من معارف وخبرات، وهي حالة متكررة في تاريخ الدول، إذ تصبح تلك الدولة أو الأمة متفوقة ليس على أقرانها فقط، بل متفوقة على ذاتها، فهي تتعالى عن ملاحقة الناس والتفتيش عن عوراتهم أو البحث عن زلاتهم أو تعقُّب هفواتهم، بل تعزز الجانب القيمي والأخلاقي، فتشيع الطمأنينة والعدالة والمساواة والرفاه، إنما هي انعكاسات طبيعية للمستوى العالي من القيم والأخلاق، الذي بلغته هذه الدولة، في معية التفوق الفكري والعلمي، الذي أدى إلى الإبداع وتفتق الأذهان، وتجدد العطاء لدى الناس. إن أمتَي العرب والمسلمين ودولهما المتعاقبة عبر التاريخ حققت هذا التفوق، بل صدّرته إلى الدول والأمم الأخرى، ودرّبتهم على طرقهم وفنونه، فمنذ أن اقترن العرب بالإسلام، وكان النهل من منابع فكره وقيمه ونظمه المختلفة أساساً لانطلاق هذه الدول، كان نصيبها التفوق والازدهار ولا يضاهيه وضع لدولة أو أمة أخرى، ويكفي أن نقلب صفحات التاريخ منذ أن بدأت دولة المدينة المدنية التي شيّدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لنقلب صفحاته عبر الدولة الأموية، فالعباسية، عبوراً إلى بلاد الغرب، حيث أُسّست الدولة الأموية بالأندلس، فإننا نشهد حضارة شُيّدت وتم بناؤها على أسس مبهرة وجاذبة، فقد تفوقنا بالفلك والطب والفيزياء والرياضيات، بل وبإدارة الدولة وحقوق الإنسان والتعامل الدولي المتوازن في ظلال نظام أخلاقي وقيمي متين.
وعلى حسّ هذه المرحلة المتطورة للدولة الإسلامية، انتعشت أوروبا وأصبح أبناؤها يؤمّون دولنا الإسلامية طلباً للاستزادة من مكنونات الكنوز التي وضعتنا على قمة التفوق، ومنذ أن صار نهج إدارة الدول مطلباً شخصياً وغلبة سياسية ومطمعاً مالياً، برز لدينا أمراء الطوائف بالأندلس، وشاع نموذجها فأدى إلى تآكل البناء المشيد فابتلعته أوروبا ولم تبقَ منه إلا الأطلال، وقد منّ الله سبحانه وتعالى علينا مرة أخرى بقيام الدولة العثمانية التي أعادت التفوق والتطور، ونعمت الدول العربية والإسلامية بفضائله، ولكن التاريخ يعيد نفسه ونحن أمة لا تتعلم، فدبّ النزاع وبرز نمط آخر من أمراء الطوائف فتشتتنا إلى دول ثم لدويلات متناهية الصغر، وأصبحنا لقمة سائغة يتقاسمها الغرب الاستعماري كما شاء.
ولئن كانت علّة التأخر لدينا والضعف والوهن والتفكك لها أسباب خارجية وأيادٍ أجنبية في أطماع الغرب ورغبته في التقسم، إلا أن لها أبعاداً داخلية، لتنكبنا الطريق الصحيح للدول بنظام قائم على العدل والمساواة وحقوق الإنسان ومن حيث منظومتها القيمية والأخلاقية القائمة على الإخلاص والأمانة والصدق ومحاسبة النفس وتقريب الأكفاء وإبعاد الأقرباء والأصدقاء ممن هم ليسوا أهلاً للمسؤولية، كل ذلك أوقع بمعظم دولنا في حالة الوهن والضعف، وولّد صراعاً وهمياً بين حاكم وشعب، أو بين دولة وأخرى، أو بين مجموعة فكرية أو سياسية وأخرى في الدولة ذاتها، وذلك كله بعيداً عن فكرة المصلحة العامة للدولة التي هي سبب التفوق، وليس غريباً أن نرى تفوقاً لدى الدول التي تتزعم قيادة العالم وعلمه وصناعاته واقتصاداته، فقد تفوقوا لأنهم أخذوا الأفضل مما لدينا، ونحن تخلفنا لأننا تخلينا عن أفضل ما لدينا وأخذنا منهم أسوأ ما لديهم، فلا غرابة أن يكون التفوق هو صنوان صناعة التاريخ.
تعليقات