لا حياة خارج الدائرة - يكتب بدر خليفة الجدعي
زاوية الكتابكتب يونيو 13, 2017, 9:02 م 1551 مشاهدات 0
'يا إلهي...إنها الجنة'
كان هذا أول ما قالته ماي هولاند بطلة رواية الدائرة (The Circle)الذي قام بكتابتها المؤلف الأمريكي دايف إيجرز في عام 2013. و تدور أحداث الرواية حول شخصية الفتاة ماي هولاند و حصولها على وظيفة الأحلام في 'الدائرة' و هي أكبر شركة للإنترنت في أمريكا. إلا أّنّ هذه الجنة سرعان ما تحولت إلى شيء يخفي بين طياته أهدافاً للهيمنة على جميع تفاصيل الحياة (إذا ما استعرنا مفهوم أنطونيو غرامشي للهيمنة) والسيطرة من منظور جورج أورويل في رواية 1984.
تبدأ القصة مع دخول ماي إلى هذه الشركة العملاقة والتي تماثل شركات في حجمها ونفوذها مثل Google و FaceBook و غيرها من شركات السوشيال ميدا. و في بداية الامر تفتن البطلة بجمال و نظافة وترتيب 'الدائرة', كل شيء فيها من تكنولوجيا حديثة وكل العاملين فيها هم من الشباب إلا الحكماء الثلاثة وهم المؤسسون للشركة.
هؤلاء الحكماء الثلاثة ,كما صورهم المؤلف , يسعون الى خلق يوتوبيا ((Utopia في المجتمع من خلال طرح بعض السياسات على العاملين في الشركة و من ثم على المجتمع ككل. أولى هذه السياسات هي تطبيق مفهوم 'الشفافية' تطبيقاً فعلياً على العاملين في الشركة. يتم هذا الأمر عن طريق قيام الموظف بتدوين جميع الأحداث اليومية من نشاطات و إجتماعات و حتى ما يدور بباله من أفكار و آراء سواء عن الشركة أو الحياة خارجها وتدوينها على النت لكي يشاهدها ويقرأها الجميع. وهناك معدل قياس يقيس مدى مشاركة الموظف في الكشف عن هذه الأمور و بناء عليه يكافأ الموظف الذي يكون شفافاً واجتماعياً داخل الدائرة. ولم يتوقف الأمر على هذا الإجراء فقط , بل قامت الشركة بطرح فكرة الشفافية 'المطلقة' وذلك بارتداء كاميرا توضع على الصدر تنقل مباشرة جميع نواحي الحياة للموظف سواء في الدائرة أو خارج الدائرة.
ولأن الدائرة تسعى وراء السيطرة مثل سيطرة الأخ الاكبر في رواية جورج أورويل 1984, قامت بفرض كاميرات على السياسيين لتسجل جميع أقاويلهم وإجتماعاتهم ونقلها لناخبيهم مباشرة. الأمر الذي شكل ضغطاً هائلاً على السياسيين , ففي نهاية الأمر ما تريده الدائرة هو الشفافية الكاملة في جميع الدوائر والشركات والمؤسسات والأفراد. والتبرير الذي تقدمه هو إذا لم يكن لديك أمر تخفيه اذاً ليس لديك ما تخشاه من وضع كاميرا على صدرك لتقول للناس : انظروا كم أنا شفاف معكم وليس لدي ما أخفيه عنكم. ومن خلال هذا المنطق , يرى الحكماء الثلاثة أنه يمكن تحقيق اليوتوبيا في مجتمع يعلم أنه مراقب طول الوقت وأن الناس كلهم يسمعون ويشاهدون ما يقول الأخر ويشاهد. وعليه فإنك لن تسرق لأن الناس يشاهدونك, ولن تكذب لأن الناس يسمعونك, وستؤدي عملك بإخلاص لأن مديرك يشاهدك وهو أيضا يعمل بإخلاص لأن مديره يشاهده وهكذا حتى يصل الأمر إلى الحكماء الثلاثة...ولكن من يشاهد هؤلاء يا ترى؟
وهنا أيضا ُيطرح سؤال : إذا قام الناس بوضع هذه الكاميرات فما الذي تبقّى من الخصوصية الفردية؟ هل تم طمسها مع وضع هذه الكاميرات؟ الكل يعلم أنه في عالم الشوسيال ميديا لا يستطيع الشخص إلا أن يخلق شخصية افتراضية له في هذا العالم الجديد. هذه الشخصية تشبه كثيراً الذات الحقيقة في العالم الواقعي , ولكن لماذا لا يكون الانسان شفافاً و يعرض ذاته الحقيقة للناس في العالم الافتراضي؟ اللإجابة بكل بساطة هي أن ذات الانسان ليست ملك لأحد غيرة , فالشخص لا يستطيع إلا إن يخفي بعض من جوانب شخصيته وذاته ويحتفظ بها لنفسه لكي يبقى على كينونته وإنسانيته , فلا مفر من وجود جوانب غير معروفة من شخصية الإنسان لا يعلمها إلا هو ولا يريد أن يظهرها للعلن ويسجل جميع ما له وعليه من جوانب حياته ويقول للناس 'هاؤم اقرءوا كتابيه'. وهذا ما لا تريده الدائرة , فهي تعتقد أن فكرة الخصوصية هي السبب في تحول العالم إلى بؤرة فساد وظلم وجريمة. ففي أحد الشعارات (والتي تشبه كثيرا شعارات أوريل في 1984) تقول الدائرة أن:
'الخصوصية سرقة'
نرى تطبيق هذا الشعار على بطلة القصة نفسها عندما قامت في رحلة (خاصة) قصيرة في إحدى القوارب الصغيرة أحادية الراكب. ولأن الدائرة كانت قد وضع كاميرات متناهية في الصغر في جميع أماكن المدينة من باب التواصل مع الكل و رؤية الكل (وهذا يذكرنا بمفهوم البانوبتيكون الذي استخدمه الفيلسوف و المفكر الفرنسي ميشيل فوكو ويعني مراقبة الكل و وضع الناس تحت الشعور بأن هناك شخص دائما يراقب كل شيء), لم تخبر ماي بطلة القصة عن هذه الرحلة القصيرة ظننا منها بأنه سيبقى شيء خاص بها تسلو به وتخلو إليه اذا ما أرادت الذهاب ' بعيداً عن صخب الناس' (وليعذرنا توماس هاردي على الاستعارة). لكن أين المفر من أعين الدائرة الإلكترونية !
تم استدعاء ماي وتحقيق معها كأنها في أحد جلسات محاكم التفتيش , لأنها فقط أرادت أن يبقى لها شيء لا تشارك به الجميع, ولكن مع الاعتراف بخطئها (ولا أدري كيف تعاقب على أمر خاص بك) ولأنها تريد أن تصبح ذات شأن في العالم الافتراضي, صممت على أن لا تكون هناك سرقات (خصوصية) بعد اليوم و أن ترتدي كاميرا الصدر وأن تكون شفافة إلى أبعد الحدود حتى في أكثر الأماكن خصوصية!
إلا أن صوت العقل كان حاضرا و متمثلاً في شخصية ميرسر صديق ماي السابق. ميرسر يعكس تماما معتقدات ماي, فهو لا يحبذ العمل في الشركات الضخمة و يرى أنها تصنع احتياجات وبرامج وتطبيقات زائدة عن حاجة الإنسان (وهذا يذكرنا بالمفكر الماركسي هربرت ماركوزه وكتابه الرجل ذو البعد الواحد الذي يتحدث فيه عن الحاجات الزائفة التي تصنعها الرأسمالية) . فهذه الثورة البرمجية جعلت هنالك خوف عند البعض من عدم القدرة على اللحاق بركب التطور (الزائف) مما يجعلهم دائمي التواجد (online) فقط ليعلموا عما يجري من حولهم و أن يواكبوا اكتشاف هذا العالم الجديد. فنرى هنا أن ماي تريد التواجد داخل الدائرة لأنه لا عالم خارجها, و على النقيض نرى ميرسر يجاهد على أن يكون خارج هذه الدائرة لأن الحياة الحقيقية توجد في الخارج. لكن المشكلة تكمن في أن الخط الفاصل بين الواقعي و الافتراضي اختفى في الرواية, فالنسبة للعاملين في الدائرة الحياة الواقعية هي ما تمثله الدائرة من خدمات و رؤى و أفكار و تطبيقات , و كل شيء خارجها يجب أن يكون تحت طائلة الشركة. حتى الرافضين لهذا الواقع الجديد , مثل ميرسر , يجب أن يكونوا تحت أنظار الدائرة الآخذة بالاتساع والتهام المجتمع كله. لكن النهايات لا تكون دائما سعيدة.
و من خلال الأحداث و الشخصيات , تطرح الرواية أسئلة مهمة مثل : إلى أي حد يمكن أن يكون الانسان شفافاً في السوشيال ميديا؟ هل أصبحت الخصوصية أمرا غير ذي أهمية في عالم طغى عدد الإيميلات على عدد سكان الصين و الهند وأمريكا مجتمعة ؟ هل الرقابة على سلوك الإنسان تجعل منه إنساناً صالحاً, الأمر الذي ينعكس على المجتمع و بالتالي تتحقق اليوتويبا؟ هل قيمة الشخص في هذا العصر تعد بكثرة المشاهدات والمتابعين وانتشاره في السوشيال ميديا؟ هل البقاء خارج دائرة الميديا يعتبر ردة تكنولوجية؟
يحاول دايف ايجرز في الرواية أن يجيب على هذه الأسئلة في أسلوب قصصي وسردي رائع و مثير. أعتقد أن القارئ لهذه الرواية سيتوقف عند هذه الأسئلة ويتأملها كثيرا و يقول لنفسه...إلى أين تذهب بنا السوشيال ميديا؟
بدر خليفة الجدعي
تعليقات