فهمي هويدي يكتب .. فى موسم بيع الأوهام

زاوية الكتاب

كتب 609 مشاهدات 0


الشروق

فى موسم بيع الأوهام

فهمي هويدي

 

فى اليوم الذى أعلن فيه رئيس البنك المركزى المصرى أن العام المقبل (٢٠١٨) هو عام «الطفرة»، كانت إحدى سيدات محافظة الشرقية تجلس أمام مبنى المحافظة ووراءها لافتة أعلنت فيها أنها تريد بيع طفلها لكى يعيش إخوته الآخرون. والمسافة بين الإعلانين ترمز للمسافة بين تصريحات المسئولين وكلام «الجرايد»، وبين الواقع الراهن. ذلك أننا نلاحظ فى الوقت الراهن إسرافا من جانب المسئولين فى الحديث عن الإنجازات ودغدغة المشاعر، الذى بات يملأ صفحات الصحف القومية على الأقل. فى الوقت الذى تتعدد فيه وتتعقد حينا بعد حين مظاهر معاناة الناس. وأيا كانت جدية الأم فى محاولة بيعها لطفلها، فأظن أن أحدا يمكن أن يجادل فى أن مصر أصبحت أحد أهم البلدان التى تروج فيها تجارة الأعضاء البشرية. فضلا عن أنها صارت مصدرا للهجرات البشرية عبر البحر إلى أوروبا. كما لا أظن أن أحدا يمكن أن ينكر أن تعويم الجنيه المصرى وفقدانه نصف قيمته، صار نقطة تحول موجعة لملايين المصريين الذين تم إفقارهم تلقائيا بسببه. خصوصا أن التعويم اقترن بموجة موجعة أيضا لزياة الأسعار، كرست الإفقار ووسعت من دائرته. وليت الذين ينشغلون بمتابعة النشطاء وتسجيل ما يبدونه من آراء عبر وسائل التواصل الاجتماعى، أو التنصت على مكالماتهم الهاتفية يصرفون بعضا من وقتهم للاستماع لصوت المجتمع ورصد صور معاناة الناس فى الأسواق التى باتت تبيع فضلات الطعام، بعدما عز الطعام ذاته، أو جمع قصص تفننهم فى الاحتيال للاستمرار فى الحياة ببعض الكرامة، وأحيانا بلا كرامة. هذا الإجمال له تفصيلات صادمة، لا يتسع المجال لذكرها، وأكثرها مما يشيب له شعر الرأس، وإذا تعرضنا لها فقد يعد ذلك إزعاجا للسلطة وتكديرا لمزاجها، وربما اعتبر من قبيل نشر الغسيل القذر. وعواقب الأمرين لا تحمد وقد لا تحتمل.

لست ضد الحديث عن الإنجازات بطبيعة الحال، وما آخذه على تصريحات المسئولين هو «الإسراف» فى ذلك، وأشدد على أن الإنجاز الحقيقى هو الذى يستشعره الناس وليس الذى يقرأون عنه فى الصحف. وفى عدة مرات سابقة ذكرت أن تحقيق الإنجاز قد يستغرق وقتا، لكن الثقة فى بلوغ المراد تشجع الناس على الصبر والاحتمال. وتهتز تلك الثقة إذا حددت للإنجاز مواعيد ثم جرى الإخلال بها، كما تهتز إذا استحكمت معاناة عموم الناس. ثم جرى الإغداق على بعضهم دون غيرهم. أو حين يتم تقليص الإنفاق على بعض الضروريات (التعليم والإسكان والصحة مثلا) ثم فتح الخزائن بغير حساب لحساب مشروعات لا أولوية لها، أو مشروعات أخرى كمالية أو ترفيهية لا ضرورة لها. ناهيك عن البذخ فى الإنفاق على فنادق وبنايات تخص بعض الأطراف المتميزة فى مواقع السلطة.

يفاقم المشكلة ويثبط الهمم، أن يشعر المجتمع بأنه معزول عما يجرى وليس شريكا فيه. كما أن بين المتحدثين من يستهين بالناس، فيطلق التصريحات والوعود مطمئنا إلى أنهم من السذاجة بحيث يصدقون كل ما يقال، أو أنهم من الوهن والاستسلام بحيث لا يجرؤون على المساءلة والحساب. وحين يتمادى المسئولون فى ذلك مطمئنين إلى أن الناس يصدقون أو يبتلعون ما يقال لهم، فإنهم ينسون أن الدنيا تغيرت، وأن الحقائق يتعذر إخفاؤها. كما أن ما لا يقال فى الصحف يملأ مواقع التواصل الاجتماعى. ناهيك عن أن سكوت الناس لا يعنى أنهم يبتلعون ما يقال لهم ويهضمونه. غير مدركين أن هناك من يختزن المشاعر ويراكمها. بالتالى فالسكوت ليس علامة استسلام وقبول، ولكنه من قبيل الصبر على المكاره، الذى له حدوده وأجله.

مهما علا الضجيج الإعلامى، ومهما كانت الوعود مبشرة وجذابة، فإن الإنجاز إذا لم يطرق أبواب بيوت الناس، وإذا لم يؤد إلى طمأنتهم وإعادة الثقة إلى نفوسهم، فإنه سيظل من قبيل الطبل الأجوف لا يسمعه إلا الذين يقرعون الدفوف ويتصدرون «الزفة».

الشروق

تعليقات

اكتب تعليقك