فهمي هويدي يكتب.. تعليق المشانق ليس حلًا

زاوية الكتاب

كتب 405 مشاهدات 0

فهمي هويدي

الشروق

تعليق المشانق ليس حلًا

فهمي هويدي

 

بعدما وقعت الواقعة يوم الأحد الدامى الذى تم فيه تفجير الكنيسة البطرسية بالقاهرة، فإن إعلان الغضب صار واجبا، لكن ترشيده واستيعاب عبرة الكارثة صار أوجب.

 

(١)

ما لقيت أحدا يومذاك إلا وكان سؤاله الأول هو: أين الأمن؟ ذلك أن الجريمة إذا كانت قد صدمت الجميع واستحق فاعلوها أن تنصب عليهم كل ما فى قاموس اللغة من لعنات، فإن الثغرة الأمنية التى مكنت القتلة من ارتكابها شكلت صدمة أخرى. فلئن كان مفهوما أن تكون الكنيسة الواقعة فى محيط الكاتدرائية هدفا لجنون الجماعات الإرهابية، فمن غير المفهوم أن تغفل الأجهزة الأمنية عن ذلك. إذ رغم أن وقائع ما جرى لم تعرف بعد بسبب ضيق الوقت، إلا أن المتواتر حتى الآن أن الكنيسة يحرسها شرطيان أو ثلاثة، وإن الداخل إليها لا يتعرض للتفتيش، الأمر الذى مكن القتلة من إدخال كمية المتفجرات التى قدرت بنحو ١٢ كيلوجراما ووضعها فى المكان المخصص لصلوات السيدات. ولأن الكنيسة لها باب مؤدٍ إلى الكاتدرائية فذلك يعنى أنها ليست بدورها بمأمن من التفجير، رغم ما يقال عن الحراسة المشددة المفروضة حولها.

هذه الخلفية تفسر الهتافات الغاضبة التى رددها الشباب القبطى ضد وزارة الداخلية وضد الحكومة ورموزها. بل تفسر أيضا طرد الشباب للإعلاميين الذين قدموا إلى المكان ومحاولة اعتداء بعضهم على واحدة منهم، إذ اعتبروهم أبواقا للسلطة الذى استفز أداؤها جماهير الأقباط، حين أدركوا أنها لم تقم بما عليها فى تأمين الكنيسة.

تبدو الملاحظة محيرة لأنه فى الوقت الذى تواصل الجماعات الإرهابية عملياتها دون توقف طوال السنوات الثلاث الأخيرة، فإننا نجد أن الأجهزة الأمنية مفتوحة الأعين عن آخرها فى التعامل مع النشطاء الذين يمنعون من السفر وتصادر أموالهم وتداهم مقراتهم وتراقب تعليقاتهم على صحفاتهم الإلكترونية فضلا عن حواراتهم التليفزيونية. ثم إنها مطلقة اليد فى التعامل الخشن مع المواطنين العاديين الذين تسوقهم المقادير إلى أقسام الشرطة لأى سبب، ثم يخرج بعضهم منها إلى المشرحة وليس إلى بيوتهم. وهى الحالات التى أصبحت تحتل مكانا ثابتا فى صفحات الحوادث بالصحف اليومية.

لا أريد أن أقلل من تضحيات الشرطة أو الأجهزة الأمنية الأخرى، لكننا لا نريد فى الوقت ذاته أن يصرفنا حديث التضحيات المقدرة عن الثغرات والانتهاكات المستنكرة، لأن هذه نقرة وتلك نقرة أخرى.

 

(٢)

أجواء الانفعال أفقدت كثيرين توازنهم بحيث تعالت أصواتهم داعية إلى مواجهة العنف بالعنف والإرهاب بالإرهاب. وهى الدعوة التى أطلقها أحد وزراء الداخلية فى ثمانينيات القرن الماضى، وثبت فشلها لأنها صبت الزيت على النار وأفرزت أجيالا جديدة من الإرهابيين لاتزال سلالتهم قائمة بيننا حتى الآن. مع ذلك فثمة فرق كبير بين أجواء الثمانينيات وبين الأجواء الراهنة. ذلك أن حالة الاستقطاب والتشنج المجتمعى لم تكن بالصورة التى هى عليها الآن. فالدعوة آنذاك أطلقها الوزير المذكور لم تعبر عن سياسة الدولة، وإنما كانت مجرد وجهة نظر محدودة الأثر. أما فى زماننا الذى تضاعفت فيه جرعات التعبئة الأمر الذى أدى إلى تعميم الكراهية وتعميق الاستقطاب واتساع دائرة التشنج، فإن الدعوة صارت هتافا جرى الاحتفاء بترديد الجماهير له، وروجت له المنابر الإعلامية المقروءة والمرئية.

إذ ما أن ذاع خبر التفجير حتى سمعنا أصواتا دعت إلى تنفيذ أحكام الإعدام المؤجلة، وإحالة جميع الباقين إلى المحاكم العسكرية وتغليظ العقوبات والتوسع فى إجراءات القمع. وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعى دعوات طالبت بالحسم الذى يقتضى تنفيذ الإعدامات بدون محاكمة واستئصال «الإرهابيين» ليس بالقضاء على أشخاصهم فحسب، ولكن بقتل أطفالهم أيضا، حيث ذكر البعض أن أبناءهم بمثابة إرهاب كامن وانتحاريين قادمين. بالتالى فإن الشعار الذى تعلق به الجميع تلخص فى كلمات ثلاث هى: المشانق هى الحل.

فى نظر هؤلاء فإن الأمر لم يكن بحاجة إلى تحقيق أو تحرٍ، لأن خطاب الشيطنة حسم المسألة من البداية، وحصر الشر فى محيط دائرة واحدة لا ثانى لها، ذلك أن التعبئة المستمرة منذ ثلاث سنوات أرجعت كل الشرور إلى مصدر واحد تمثل فى جماعة الإخوان. من ثم فإن المتهم جاهز قبل التفجير وبعده، ولم يبق لطى الصفحة واستئصال شأفة الإهاب سوى إجراء واحد هو صدور قرار بتعليق المشانق وتشغيلها.

هذا السيناريو الذى تتداوله بعض الألسنة الغاضبة أو الناقمة لا يختزل المشهد ويعمد إلى تبسيطه فحسب، ولكنه يمثل منزلقا يفتح الأبواب لما هو أفدح. ذلك أن فكرة مقارعة الإرهاب بالإرهاب تلغى الدستور والقانون وتهدر قيمة العدالة، وتنال من شرعية الدولة، حين تحيل المجتمع إلى غابة تسودها الفوضى ويحتكم فيها إلى البطش والقوة.

 

(٣)

إننا لا نملك ترف الاستسلام للانفعال. وليس أمامنا بديل عن ترشيده من خلال البحث الجاد فى الإجابة عن السؤالين: من فعلها؟ ولماذا؟ فى هذا الصدد فإننى أنبه إلى أن حادث تفجير الكنيسة يمثل تحولا نوعيا فى عمليات الجماعات الإرهابية، ذلك أن العمليات السابقة التى استهدفت الجيش والشرطة وبعض رجال القضاء يمكن تفسيرها بحسبانها عمليات انتقامية شريرة لتصفية حسابات مع النظام والسلطة، أما عملية الكنيسة الأخيرة فهى موجهة ضد المجتمع. ذلك أن الذين وضعوا العبوة المتفجرة فى يوم الأحد يعرفون جيدا أنها ستؤدى إلى قتل مواطنين مدنيين أبرياء قدموا للصلاة، الأمر الذى يضرب الاستقرار ولا يصيب عناصر النظام المباشرين. ولأن ذلك الاستهداف لم يحدث من قبل فقد اعتبرته منعطفا ربما كان إشارة إلى الاتجاه لتوسيع جبهة المواجهة بحيث تصيب الضربات فيه حلقات المجتمع التى تشمل المواطنين العاديين. وذلك احتمال إذا صح فإنه يمثل نقلة جديرة بالملاحظة والانتباه.

الإجابة عن السؤال من فعلها منوط بأجهزة السلطة وتحرياتها التى أرجو ألا تتسرع فيها وألا يتم تسييسها. وليس لمثلى أن يجيب عنه، لكننا قد نستطيع التعرف على الأطراف التى تبرأت منها وأعلنت أنها لم تفعلها. إذ نلاحظ فى هذا الصدد أن الإخوان سارعوا إلى إدانة التفجير بعد ساعات من وقوعه. كما أن جماعة «حسم» التى أعلنت مسئوليتها عن الهجوم على كمين الشرطة فى منطقة الهرم ويقال إنها قريبة من الإخوان، أصدرت بيانات أدانت فيه التفجير واستنكرته، وهو ما فعلته مجموعة أخرى تطلق على نفسها «لواء الثورة»، التى أعلنت مسئوليتها عن قتل العميد عادل رجائى قائد الفرقة المدرعة بالجيش، وذلك يعنى أن الجهة التى تبنت التفجير ليست معلومة بعد. علما بأن حادث قتل النائب العام السابق المستشار هشام بركات لم تعرف بعد الجهة التى وقفت وراءه.

إذا صحت هذه المعلومات فإنها تثير السؤال التالى: هل يكون لتنظيم داعش أو الدولة الإسلامية ضلع فى تفجير الكنيسة، خصوصا أن له سوابق فى استهداف غير المسلمين فى العراق؟

 

(٤)

لست أشك فى أن حوارا يجريه المستقلون من أهل الاختصاص والخبراء بوسعه أن يقدم إجابة أوفى مما عندى على السؤال لماذا تم استهداف الكنيسة؟ وإلى أن يتم ذلك فإننى أضع بين أيدى الجميع اجتهادا يشير إلى عوامل عدة فى مقدمتها ما يلى:

< ارتفاع منسوب العنف فى المجتمع المصرى بحيث صار القتل خارج القانون سلوكا واردا تغطيه التبريرات التى تقدمها وسائل الإعلام، وحين تكررت شواهد هذا التحول فى الآونة الأخيرة، فإن ذلك ربما سوغ للإرهابيين أن يعمدوا إلى التصعيد بحيث ينقلون بدورهم جبهة الصراع من استهداف رموز السلطة إلى الضرب فى قلب المجتمع.

< اعتبار الكنيسة طرفا متحالفا مع النظام الذى يخاصمونه. وهو انطباع أيدته قرائن انخراط قيادة الكنيسة فى الشأن السياسى على نحو أثار حفيظة بعض الأقباط أنفسهم. وهو ما ظهر جليا فى البيان الذى أصدروه وانتقدوا فيه المبالغة فى الاصطفاف الذى رعته الكنيسة أثناء زيارة الرئيس السيسى لأمريكا. وحذروا من تبعات ذلك الموقف التى يمكن أن يدفع المجتمع القبطى ثمنه.

< محاولة إرباك النظام وتشتيته باستهداف الحلقات الهشة فى المجتمع، الأمر الذى يوسع من دائرة الصراع بحيث ينقله إلى المستوى الطائفى الأكثر تعقيدا والأشد خطرا.

< انسداد الأفق السياسى مع استمرار الاستقطاب وتعميق الكراهية، الأمر الذى ربما أشاع حالة من اليأس فى أوساط الإرهابيين، دفعتهم إلى تصعيد العنف الذى صار خيارا وحيدا متاحا لهم.

بقيت عندى أربع ملاحظات:

< الأولى إننى أحذر من التهوين مما جرى أو التهويل من شأنه، فنحن أمام جريمة غير عادية تحمل فى طياتها نذر نقلة خطرة فى الصراع الدائر. وبالتالى ينبغى تجنب استسهال توجيه الاتهامات وحشد المتهمين أو المشتبهين والتعويل على الاعترافات المحررة سلفا. ذلك ان المطلوب بذلك جهد غير عادى للتعرف على الفاعلين دون تسرع أو تلفيق. فى الوقت ذاته فإن التحذير واجب أيضا من الادعاء بأن ما جرى يستهدف إسقاط الدولة، وهى المقولة التى باتت تتردد على ألسنة البعض، لأن الدولة ليست بالهشاشة التى تسقطها جريمة مهما بلغ حجمها. وينبغى ألا ننسى أنه فى عام ٦٧ هزم الجيش ودمر سلاح الطيران بحيث صار الطريق سالكا بين القناة والقاهرة، وليس فيه جندى واحد كما قال الرئيس عبدالناصر، ومع ذلك لم تسقط الدولة واستعادت حيويتها بعد ذلك.

< الثانية أحذر أيضا من الانفعال فى الخطاب الرسمى والإعلامى. ذلك أن الدولة لا تنتقم ولا تثأر ولا تصفى الحسابات، فذلك مما ينبغى أن يترك للعصابات والقبائل. لأن الدولة تكتسب شرعيتها وهيبتها من احتكامها إلى الدستور والقانون ومن إحقاق الحق وإقامة العدل.

< الثالثة والأهم إننا حين نطالب رجال الأمن بالقيام بما عليهم فإننا لا ينبغى أن نعفى أهل السياسة وأولى الأمر فى المقدمة منهم من القيام بما عليهم. أخص بالذكر الحاجة إلى المراجعات التى تستهدف رصد الثغرات السياسة التى أفضت إلى ما وصلنا إليه. خصوصا ما تعلق منها بإشاعة الإحباط وانسداد أفق الحريات والمصالحة الوطنية مع إماتة السياسة والانصراف إلى الاقتصاد دون غيره.

< الملاحظة الأخيرة إننى أرجو ألا يفهم مما ذكرت توا أن أيا من العوامل التى أشرت إليها يبرر الجريمة التى وقعت، وإنما هى من قبيل الاجتهاد فى تفسير ما جرى، الأمر الذى لا يتعارض مع واجب ملاحقة الفاعلين وتوقيع أقسى العقوبات التى يقررها القانون عليهم.

الشروق

تعليقات

اكتب تعليقك