معرض الشارقة.. مواجهة الفكر الهدام..يكتب رشيد الخيون
زاوية الكتابكتب نوفمبر 16, 2016, 11:40 ص 501 مشاهدات 0
فتتح معرض الشارقة للكتاب دورته الأولى عام 1982، فتجربته لخمسة وثلاثين عاماً جعلته من أهم مواسم الكتب والثقافة، لكثرة دور النشر العارضة، وغزارة المعروض من الكتب، وتعدد الندوات الفكرية والأدبية، مع تنظم دقيق لسير نشاطات المعرض. التقينا كتاباً وباحثين شباباً ممن ولدوا مع ميلاد المعرض وبعده، يوقعون كتبهم ويساهمون في الندوات. كذلك يُلاحظ، على زوار المعرض، وجود النسبة العالية من الشباب المشاركين والزائرين والسائلين عن الكتاب الفكري التنويري، مع نسبة ملحوظة من كُتاب الرواية من الشبان والشابات، وبغض النظر عن مستوى الرواية، المتراوح بين الجدير بالاهتمام والمتواضع، لكن العبرة بالتوجه نحو الثقافة، وعادة تكون البدايات قلقة.
ما نريد قوله إن الفكر الهدام، الذي تحدثت عنه ندوة من ندوات المعرض، بدا بعيداً عن جمهرة واسعة من الشباب، فالباحث عن كتاب «العلاج بالجن» أو «عذاب القبر» غير الباحث عن كتب التسامح والتنوير. يغمرك المشهد بالحبور والأمل، وأنت تشاهدهم يطوفون بين دور النشر ويحاورون في الندوات بثقة. إنه سلاح المعرفة.
|
كم جندت ثقافة الهدم من هذه الفئة، وكم تمنوا تجنيدهم لحرق أكثر من مليون ونصف كتاب معروض، ونسف ندوات أُعدت لمواجهة العنف والتعصب بالكلمة والفن! لن أنسى عبارة ذلك الإسلامي، عندما مرَّ في معرض للكتب متمتماً: «هذه كلُّها سموم»! وآخر امتنع عن إعادة كتاب استعاره وفضّل حرقه لأنه يخالف اعتقاده، والاثنان أصبحا في واجهة المشهد السياسي والأكاديمي لبلد الحضارات.
معلوم، أن الكتاب سلاح أهل الظلمة وأهل النور على حد سواء، ويبقى التمييز في ما نُقش على الصفحات، فمحتوى صفحات «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق (ت 1966) غير محتوى «معالم في الطريق» لسيد قطب (أُعدم 1966)، وهما متجايلان تقريباً، مع فارق الزَّمن في تصنيف الكتابين، صُنف الأول (1925)، وصُنف الثَّاني (نحو 1964). كذلك الفرق بين كتاب آية الله الخميني (ت 1989): «الوصية الإلهية السياسية» (1403هـ) وكتاب عبد الكريم سروش «التدين والسياسة». وإذا عدنا إلى الأقدمين لا نجد أكثر فرقاً مما بين كتاب أبي حامد الغزالي (ت 505هـ) «تهافت الفلاسفة» وكتاب ابن رُشد (ت 595هـ) «تهافت التَّهافت».
بنى الخميني، وغيره من قادة الإسلاميين، نهجهم على ما ورد في بطون كُتب الأقدمين، ليجعلوا منها ثوابتَ لربط الدِّين بالسياسة، مع أن الخميني نفسه يُذيل كتابه المذكور بقلق من زيادة ونقصان بعده. قال: «الآن وأنا حاضر نُسبت إليّ بعض المسائل غير الواقعية، ومن الممكن أن يزداد حجمها بعدي. لهذا أقول: إن ما نسب إليّ، أو ينسب، لا يصدق إلا إذا كان بصوتي أو بخطي وإمضائي»! أقول: من أين نأتي بإمضاء الأقدمين وتسجيلات أصواتهم، كي نعتمد منهم ما اشترطتموه علينا في مبدأ الولي الفقيه أو الحاكمية الإلهية؟!
كلُّ ما تقدم يميز بين الأفكار وينقدها، ويعين حدود الهدم وحدود البناء، ولنا أن نقول: ما لا ينسجم مع العقل يُعد هدماً؟ لكن ما هو العقل؟ وهل هناك تعريف متفق عليه؟ وكم جرى من نزاع طويل بين المعتزلة والسلفية والأشاعرة، ولم يتفقوا على شيء؟ لم يكن الجدل بنية الوصول إلى اتفاق، بل لإبقاء الاختلاف قائماً. مَن أخذ بالتَّعارض بين العقل والنقل، ومَن جمع بينهما، ومَن أخضع الأول للثاني وبالعكس. حتى صاحب الجهل يعد جهله ذروة العقل، حسب ما لُقن من عبارة، بل وتجده سعيداً بطاعة شيخه. قال المتنبي (قُتل 354هـ) في هذه المفارقة: «ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ/ وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ» (العُرف الطيب). كم يبدو الانتحاري سعيداً بجهله، على اعتقاد راسخ بأن ما بينه وبين الجنة ضغطة زر الموت. هكذا عُرف له العقل وقُدم له الدين.
أتاحت لنا ندوة «الكتابة في مواجهة الفكر الهدام» ضمن ندوات معرض الشارقة للكتاب، التذكير بخطورة الفكر الهدام، والذي نزعم أنه كله يُوَظَّف لقتل الإنسان، وملء دماغه بالخرافة، وملء الصدور بالكراهية، وتسخير الدِّين في السياسة. فالهدم «نقض البناء»، ومن معانيه: الثوب البالي، وكسر الظهر، وهدر الدم (القاموس المحيط). ولا أظن خطاب السَّاعين بالنَّاس إلى أتون الطائفية الدينية والمذهبية، بمراكب من الكُتب والرسائل وجمهرة من الفضائيات، له صلة بالبناء.
أختم بميمية أبي الطَّيب أيضاً: «وَمن البَليّةِ عَذْلُ مَن لا يَرْعَوي/عَن جَهِلِهِ وَخِطابُ مَن لا يَفهَمُ». لقد ملأ الفكر الهدام الآفاق، يؤسس لمذابح وحرائق كلما انطفأت واحدة بدأ إشعال أخرى. فكم تبدو الحاجة ماسة إلى مواجهة هذا الفكر العابث، والذي لا ينبغي وصف جزء منه بالمعتدل وآخر بالمتطرف، فالأول مصيره إلى الثاني، فكلاهما ينبعان من عين واحدة، ولا أرى مواجهته بالكتابة «أضعف الإيمان».
تعليقات