بغداد.. صدى إسطنبول وأصفهان!...يكنتب رشيد الخيّون
زاوية الكتابكتب أكتوبر 26, 2016, 10:35 ص 408 مشاهدات 0
ا يجري الزَّمن ببلادنا وفقاً للمنطق الصَّحيح، إنما يجري منكوساً من الماضي إلى الحاضر. هذا ما يُلاحظ في الزَّمن الرَّاهن، وهو الأسوأ بين الأزمنة. عاد العراق إلى نزاع العثمانيين والصَّفويين، والحاكمين ببغداد نواباً لهما، والدَّليل تناقض المواقف في معركة الموصل.
مِن العجب أن الاثنين كانا مِن جنس واحد تُركاً، ووجد افتراق المذهب مبرراً للنزاع، هذا سُنيٌّ حنفي وذاك شيعيٌّ إمامي. يوم اتخذ شيخ الطريقة الصَّفوية جُنيد بن إبراهيم (قُتل 1488م) لأتباعه «شعارَ رأسٍ على صورة قلنسوة حمراء ذات اثنتي عشرة شَقة، تُلف حولها عِمامة... تُذَكّر بعلي وأبنائه» (الشِّيبي، الطَّريقة الصَّفوية)، مع أنه ظل على صوفيته السُّنية، حتى أتى أحد أحفاده إسماعيل (ت1524م) فأشهر الحُكم بالمذهب الإمامي، وكان العثمانيون أعلنوا المذهب الحنفي رسمياً. مِن يومها تواجه، ومِن دون عداوة مسبقة، الإمامان النُّعمان (ت150هـ) والكاظم (ت183هـ) عبر ضفتي دجلة.
|
تناوب العثمانيون والصَّفويون على حُكم العراق، فصار ساحةً لنزاعهما، يدخل السُّلطان العثماني قادماً مِن إسطنبول يقتل ويُخرب، لكنه يحرص على إعمار الأضرحة كافة، ويدخل السُّلطان الصَّفوي قادماً مِن أصفهان يقتل ويُخرب ويعيد إعمار المزارات الشِّيعية فقط، لأن الطَّاعة تأتي مِن تحت قببها، مثلما تغدق الدولة على مواكب اليوم. إلا أن سيد دراج (قُتل 1639م) سادن مشهد الحُسين فهم اللعبة بأنها خارجة عن الدِّين، فعندما همَ الشَّاه بقتل السُّنة ببغداد كافة، نصحه دراج، مع ما في النصيحة مِن مخاطر على حياته: «سأختار محبي عليٍّ منهم، وما عداهم فأقتلهم» فسجل الجميع مِن المحبين (العزاوي، العراق بين احتلالين).
حكم بغداد الصَّفويون (1508-1534م) فزالوا ثم عادوا (1622-1638م)، وحكمها العثمانيون (1534-1638م) فزالوا ثم عادوا (1638-1917م)، لكنَّ طول هذه الفترة كانت الأحوال بينهما كراً وفرَّاً على الحدود، وحصارات فظيعة تعجز الأقلام عن وصفها، وعلى وجه الخصوص إذا توافقت معها مواسم طغيان النهرين، أو الطَّواعين، ويومها يتحول الماء إلى مقبرة، وترى العشائر، على التُّخوم، تتسنن وتتشيع، حسب مذهب الغازي، ليس لله علاقة بهذا التبدل.
أما العراق ككل، وبغداد عاصمته منذ ذلك التَّاريخ: فكان «مِن الضّعف والعجز، لم يقدر أن يُحرك ساكناً، ولا يزال الخوف مستولياً عليه مما أصابه مِن أقوام ليس لهم رأفة به ولا رحمة» (العزاوي، نفسه). ونكمل مع صاحب «العراق بين احتلالين» كي نصل إلى نتيجة مفادها أن عراق اليوم هو عراق الأمس نفسه: «لم يبق مِن رجاله مَن ينقاد له الرَّأي العام، ليقوم بالاستقلال، ويربح قضية استفادة مِن الفرصة السَّانحة». انظروا في وجوه سياسيي اليوم هل تجدون مَن يقنع الجمهور بمؤهلاته دون رايتي عمرٍ وعليٍّ؟! كأن الفضل بن عباس بن عُتبة (ت95هـ) حال لسانهما اليوم: «بنا دان العبادُ لكم فأمسوا/ يسوسهم الرَّكيك مِن الرِّجال» (الأنباري، الزَّاهر في معاني كلمات النَّاس).
أُعلن عن زحف الجيش التُّركي إلى العمق العراقي، قبل أيام، وكأنه لم يكن زاحفاً مِن قَبل! وانقسم السَّاسة: هذا يصفه بالمحتل وذاك بالمحرر. تأسست بالعِراق عشرات الميلشيات ذات الولاء الإيراني المفضوح، وأصغر قائد فيها كلمته أمضى مِن كلمة رئيس الوزراء، واختلفوا حولها، قال هذا: احتلال إيراني، وقال ذاك: إنه حلف الممانعة! فإيران ترى وعلى لسان أقطابها أنها زعيمة الممانعات المنكوبات: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء!
تقسمت السُّوق إلى تُركية وإيرانية، يُستورد منها الطَّابوق، والفجل، والطَّماطم، والتَّمر، ودفاتر التَّلاميذ، حتى صار العِراق معاقاً، لا صناعة ولا زراعة، وفي معركة الموصل كلٌّ يريد حيازة النَّصر، كي يرفع رايته وسطها بديلاً عن «داعش»، مع أن أمر الأخيرة دبر في ليلٍ، مَن فتح بوابات السّجون، ومَن سحب عساكر الموصل؟!
لم يخجل أحد السَّاسة مِن تقديم خارطة العراق للقيادة الإيرانية -أيام المعارضة- بعد حذف البصرة وميسان وضمهما لإيران، مثلما لم يخجل آخر أن يُهدي الموصل إلى تركيا. هذا يعد بالثَّأر مِن قتلة الحُسين بالموصل، وذاك يطلب حماية السُّنَّة. أما أشقاؤنا الكُرد فتقسموا بين إسطنبول وأصفهان، مَن يعتبر الوجود التركي شرعياً، ومَن يُعد الهيمنة الإيرانية صداقة! ومَن يملك بستان العِراق لا يخشى حصاراً ولا يقلق لأزمةٍ.
حينها ظهر ما بين احتلالات إسطنبول وأصفهان لحن خافت في أغاني الأقدمين: «بين العجم والرُّوم بلوى ابتلينا». يشرحها العزاوي: «وإن كان موردها غرامياً تعني التَّألم والتَّوجع مما جرى، فقد احترق الأهلون بين نيران الاثنين المتحاربين».
أجد لدى عبد الأمير الحصيري (ت1978) ما يُعبر عن الخاطر: «شَاءَ القَضَاءُ بأنْ يَشُلَّ سَوَامِقا/ يَبَسٌ وَتسقِى الازدِهَارَ طحَالِبُ/ وَبأن تُغَرَّق بالدُموع ِ مَكَارِم/ وَتتيهُ في خُضر البُرُودِ مَثالِبُ» (معلقة بغداد 1962). لم يبق لبغداد سوى المثالب والطَّحالب، إنها صدى الماضي ما بين إسطنبول وأصفهان.
تعليقات