حكم القانون – والحكم بالقانون
زاوية الكتابعندما يسود حكم القانون- يكتب جاسم السعدون واسقاطاته في الكويت
كتب أغسطس 14, 2016, 7:15 م 3111 مشاهدات 0
عندما تكون العدالة عمياء، تحكم وفق القضية، من دون النظر إلى أطرافها، وعندما تشرع القوانين المنظمة، تشرع للوطن، من دون نظرة عدائية أو تفضيلية لأحد مكوناته، وحتى إن وجد عيب في التشريع، تظل تلك القيمة -الحياد- هي الحاكمة في حال تطويره، وذلك ما يسمى حكم القانون. الحكم بالقانون، حالة معاكسة تماماً، وهي مجرد عملية تطوير للحكم الشمولي، الفارق، هو في الآلية فقط، وليس بالنتيجة، فالعدالة ليست عمياء، وأحكامها تفصل وفق موقف وموقع أطرافها، والتشريع يفصل لخدمة السلطة أياً كان المسيطر عليها، والوطن وأمنه وسلامته، مجرد كلمات وألحان لزوم التقرب والانتفاع من السلطة.
عندما يسود حكم القانون، ترتقي قيم المجتمع، من أعلى سلطاته، إلى المواطن العادي، وتجربة استفتاء بريطانيا في 23 يونيو الفائت للخروج من الاتحاد الأوروبي، مثال، فالاستفتاء ليس ضمن الآليات الدستورية لاتخاذ القرار، بل هو آلية دون الدستور والقانون، واقترحه 'ديفيد كاميرون' في عام 2013 لإحراج معارضيه في حزبه ممن يدعون لانفصال بريطانيا. وجاءت نتيجة الاستفتاء على غير رغبته، وقدم استقالته فوراً، لأنه فشل في إقناع المواطن بوجهة نظره، وجاءت رئيسة وزراء معارضة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولكنها وعدت باحترام رأي الأغلبية، وعدم محاولة إعادة الاستفتاء، والعمل بجد وإخلاص على خفض تكاليف الخروج إلى حدودها الدنيا، وتعظيم منافع الخروج إلى حدودها العليا، وعينت زعيم معسكر الخروج من أوروبا وزيراً لخارجيتها، ذلك كله من أجل وطن، أما الإدارة، فهي مؤقتة.
والكويت في بداية ستينات القرن الفائت، اختارت حكم القانون، وأصبحت دولة دستورية خلافاً لمعظم إقليمها، وشملت مظلة المواطنة كل مواطنيها، وتفوقت سياسياً واقتصادياً وتعليماً وثقافة وفن ورياضة، وكانت الوطن النموذج. ولكن، كل ما تقدم سار باتجاه معاكس، عندما تحولت منذ تزوير انتخابات عام 1967 إلى الحكم بالقانون، أي تطويع الدستور والقانون لضمان ديمومة الإدارة، فبات الوطن يتآكل، والإدارة تشتري ديمومتها بالجزرة والعصا، وبالقانون.
والأمثلة ما بين حياكة وتفصيل القانون لأغراض لا علاقة لها بمصلحة وديمومة وطن، أو بقانون بمناظر ومكبرات رؤية من أجل خدمة طرف أو إقصاء أخر، باتت كثيرة وصادمة. من أمثلتها، إنشاء هيئات ولجان ومجالس، بالقانون، بلغ عددها أكثر من ضعف عدد وزارات الدولة، وأصبحت معها حكومة الكويت أكبر حكومة في العالم، ليس لغرض بناء وخدمة وطن، وإنما من أجل خلق مراكز للنفوذ والتوظيف لشراء الولاءات للإدارة العامة. ومع إنهيار سوق النفط مؤخراً، أصبحت تلك الكيانات مراكز تهديد حقيقي لاستقرار الوطن، فلم تعد تكلفتها محتملة. ومن أمثلتها، توجيه أموال تكفي بالارتقاء بالخدمة الصحية المحلية إلى أعلى المستويات، ولكنها خصصت من أجل إبتعاث علاجي في معظمه سياحي لشراء الولاءات، بدعوى علاج حالات صحية مستعصية بالخارج، والإبتعاث الفاسد ورصد الموازنات له، يتم بالقانون. ثالث الأمثلة، هو قانون الإقصاء السياسي الأخير، وهو قانون تم تفصيله لاختزال السلطة في القائمين عليها حالياً، فالإقصاء هذه المرة، جاء من مجلس الأمة، من أجل ضمان احتفاظ أكبر عدد منهم بكراسيهم، وهو مثال صارخ على تطويع الحكم بالقانون بما يتعارض مع استقرار الوطن.
والحكم بالقانون لا ينحصر فقط في تفصيل وحياكة التشريع، وإنما يمتد إلى الاستثناء والانتقاء في تطبيقه، فالقانون ليس أعمى كما ذكرنا، وإنما بعين مفتوحة، تتسع حدقاتها كلما علا شأن من يوالي الإدارة العامة. ففي حالة الإيداعات والتحويلات، لم يكن هناك أي لبس حول كونهما حالتي رشا فاضحة، هدفها شراء لذمم نواب مؤثرين في مسار السياسة العامة، وتلك جريمة خيانة أمانة، وخيانة عظمى، في أي دولة يحكمها القانون. وتحقيقات النيابة لم تنفي في قضية الإيداعات حقيقة انتفاخ أرصدة 26% من نواب الأمة من دون مبرر، وإنما حفظت القضية لأن قانون غسل الأموال لا يطالها، وهي فضيحة وسبة عندما لا ينتفض القانون لمواجهة قضية رشا وخيانة. مثال آخر، وهو انتشار الشهادات العليا المضروبة، وضررها لا يقتصر على تبؤ حامليها لمراكز هامة في المفاصل الإدارية العامة، وحصولهم على امتيازات مالية بعلم مزور، وإنما هي جريمة كبرى، لأن بعضهم بات مسئول عن تعليم النشء، أو إعداد رأس المال البشري الأهم والمسئول مستقبلاً عن مصير الوطن.
قبل أكثر من ثلث قرن من الزمن، أي في عام 1981، عدل قانون الانتخاب بمرسوم ضرورة من طرف واحد، أي من قبل الحكومة، وتم يومها تفتيت الدوائر إلى 25 دائرة، لم يكن غرضه مزيد من الديمقراطية كما نص الدستور، وإنما تسهيل عملية التحكم في مخرجات انتخابات مجلس الأمة، برشى المال والوظيفة والخدمات، من أجل ضمان ديمومة الحكومة. وفي أغسطس من عام 2012، تم تعديل قانون الانتخابات من طرف واحد بمرسوم ضرورة، وحصنته المحكمة الدستورية في عام 2013، وكان ضمن حقبة أبطل فيهما مجلسان للأمة بسبب أخطاء إجرائية حكومية، وغرض ذلك كله، كان الإقصاء السياسي لغير المرغوب فيهم. وقانون الإقصاء السياسي الأخير، هو تقليد لتلك الآلية من الحكم بالقانون، لإقصاء غير المرغوب فيهم، ولكن هذه المرة، من قبل مجلس الأمة، وبدعم من أغلبية أعضاء اكتشفوا أن العضوية باتت كلمة سر 'أفتح يا سمسم' لكنائز أموال ووظائف وخدمات الدولة.
مثال آخر طازج، ولكن طعمه مر، منذ نهاية سبعينات القرن الفائت اختطفت الرياضة الكويتية، وأطلق على أبطالها لقب 'الليمونة المعصورة'، بنية زراعة جديدة لثمارها، ومن يومها والرياضة الكويتية في تدهور متصل. وطوع القانون لديمومة إستمرار إدارتها لأنها وفق نظام المحاصصة، كانت من نصيب تلك الإدارة، ولكن، وقبل سنوات قليلة، تعدت إدارتها على حصص آخرين من أبناء العمومة، وبدأت المعركة. وليست مصلحة الكويت، ولا رياضتها هدف تلك الحرب، وإنما صراع السلطة، ووظف القانون المحلي لإقصاء الطرف الآخر، وإستخدم الآخر قوانين الرياضة الدولية لإقصاء الكويت من حقل الرياضة الدولية، وباتت الكويت ورياضتها هما الضحية. وبالأمس فازا بطلا الكويت 'فهيد الديحاني' -ذهبية- و'عبدالله الرشيدي' -برونزية- بثلث ميداليات كل العرب حتى تلك الساعة، وبدون إدارة أو تمويل أو وصاية رسمية أو غيرها، ولكن علم الكويت غاب عن منصة التتويج، لتخسر أفضل إنجاز رياضي في تاريحها. خسرت الكويت لأن طرفي الصراع على السلطة، وظفا الحكم بالقانون كلاً لصالحه، وعندما ربح بطلا الكويت كلاً بجهوده، بدأ نفاق إستمالتهما لهذا الطرف أو ذاك، ولم يقدم أي طرف إعتذار للوطن الضحية.
والحكم بالقانون في تقديري، أسوأ من الحكم الشمولي، محتواه غاية في الضرر، بينما غلافه جميل، وقد يتأخر الوقت كثيراً حتى يتمزق ذلك الغلاف الجميل، ويتم اكتشاف خطورة ذلك المحتوى، وساعتها، قد يكون أوان الإصلاح قد مضى.
جاسم خالد السعدون
14 أغسطس 2016
تعليقات