٢٠ عامًا على رحيله:عبدالباسط عبدالصمد..سفير القرآن

عربي و دولي

775 مشاهدات 0

الشيخ عبدالباسط

 


 


 

القاهرة: ـ هناك رجال لهم آثارهم الطيبة فى حياتهم وبعد انتهاء آجالهم ومماتهم.. ومن هؤلاء الرجال فضيلة الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد، قيثارة السماء، وسفير القرآن.

هو أمير دولة المقرئين فى العالمين العربى والإسلامي، رغم موته قبل نحو ٢٠ عامًا وبالتحديد يوم ٣٠/١١/١٩٨٨.

ولقد ولد القارئ الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد عام ١٩٢٧ بقرية المراعزة التابعة لمدينة أرمنت بمحافظة قنا، حيث نشأ فى بقعة طاهرة تهتم بالقرآن الكريم حفظًا وتجويدًا، فالجد الشيخ عبدالصمد كان من الأتقياء والحفظة المشهود لهم بالتمكن من حفظ القرآن وتجويده بالأحكام.. والوالد هو الشيخ محمد عبدالصمد، كان أحد المجودين المجيدين للقرآن حفظًا وتجويدًا.

أما الشقيقان محمود وعبدالحميد فكانا يحفظان القرآن بالكتّاب فلحق بهما أخوهما الأصغر سنا عبدالباسط، وهو فى السادسة من عمره، كان ميلاده بداية تاريخ حقيقى لقريته ولمدينة أرمنت التى دخلت التاريخ من أوسع أبوابه.. التحق الطفل الموهوب عبدالباسط بكتّاب الشيخ الأمير بأرمنت فاستقبله شيخه أحسن ما يكون الاستقبال، لأنه توسم فيه كل المؤهلات القرآنية التى أصقلت من خلال سماعه القرآن يتلى بالبيت ليل نهار بكرة وأصيلاً.

لاحظ الشيخ «الأمير» على تلميذه الموهوب أنه يتميز بجملة من المواهب والنبوغ، تتمثل فى سرعة استيعابه لما أخذه من القرآن وشدة انتباه وحرصه على متابعة شيخه بشغف وحب، ودقة التحكم فى مخارج الألفاظ والوقف والابتداء وعذوبة فى الصوت تشنف الآذان بالسماع والاستماع.

يقول الشيخ عبدالباسط فى مذكراته: كان سنى عشر سنوات أتممت خلالها حفظ القرآن الذى كان يتدفق على لسانى كالنهر الجارى، وكان والدى موظفًا بوزارة المواصلات، وكان جدى من العلماء، فطلبت منهما أن أتعلم القراءات، فأشارا على أن أذهب إلى مدينة طنطا بالوجه البحرى لأتلقى علوم القرآن والقراءات على يد الشيخ «محمد سليم».

ولكن الأمر كانت متعلقًا بصياغة مستقبلى ورسم معالمه مما جعلنى أستعد للسفر، وقبل التوجه إلى طنطا بيوم واحد علمنا بوصول الشيخ محمد سليم إلى «أرمنت» ليستقر بها مدرسًا للقراءات بالمعهد الدينى بأرمنت، واستقبله أهل أرمنت أحسن استقبال واحتفلوا به.. وأقام له أهل البلاد جمعية للمحافظة على القرآن الكريم «بأصفون المطاعنة» فكان يحفظ القرآن ويعلم علومه والقراءات، فذهبت إليه وراجعت عليه القرآن كله ثم حفظت الشاطبية التى هى المتن الخاص بعلم القراءات السبع.

بعد أن وصل الشيخ عبدالباسط الثانية عشرة من العمر، انهالت عليه الدعوات من كل مدن وقرى محافظة قنا وخاصة أصفون المطاعنة بمساعدة الشيخ محمد سليم، الذى زكى الشيخ عبدالباسط فى كل مكان يذهب إليه، وشهادة الشيخ سليم كانت محل ثقة الناس جميعًا.

وفى عام ١٩٥٠م ذهب ليزور آل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعترته الطاهرين، وكانت المناسبة التى قدم من أجلها مع أحد أقربائه الصعايدة هى الاحتفال بمولد السيدة زينب، والذى كان يحييه عمالقة القراء المشاهير كالشيخ عبدالفتاح الشعشاعي، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ عبدالعظيم زاهر، والشيخ أبوالعينين شعيشع وغيرهم من كوكبة قراء الرعيل الأول بالإذاعة.

واستاذن أحد أقارب الشيخ عبد الباسط القائمين على الحفل أن يقدم لهم هذا الفتى الموهوب ليقرأ عشر دقائق فأذن له وبدأ فى التلاوة وسط جموع غفيرة وكانت التلاوة من سورة الأحزاب.. عم الصمت أرجاء المسجد واتجهت الأنظار إلى القارئ الصغير الذى تجرأ وجلس مكان كبار القراء.. ولكن ما هى إلا لحظات وانتقل السكون إلى ضجيج وصيحات رجت المسجد «الله أكبر» «ربنا يفتح عليك».

وبدلاً من القراءة عشر دقائق امتدت إلى أكثر من ساعة ونصف الساعة.. ومع نهاية عام ١٩٥١ طلب الشيخ الضباع من الشيخ عبدالباسط أن يتقدم إلى الإذاعة كقارئ بها ولكن الشيخ عبدالباسط أراد أن يؤجل هذا الموضوع نظرًا لارتباطه بالصعيد وأهله ولأن الإذاعة تحتاج إلى ترتيب خاص، ولكن ترتيب الله وإرادته فوق كل ترتيب وإرادة.

كان الشيخ الضباع قد حصل على تسجيل لتلاوة الشيخ عبدالباسط بالمولد الزينبى وقدم هذا التسجيل للجنة الإذاعة فانبهر الجميع بالأداء القوى العالى الرفيع المحكم المتمكن، وتم اعتماد الشيخ عبدالباسط بالإذاعة عام ١٩٥١ ليكون أحد النجوم اللامعة والكواكب النيرة المضيئة بقوة فى سماء التلاوة.

بعد الشهرة التى حققها الشيخ عبدالباسط فى بضعة أشهر كان لابد من إقامة دائمة بالقاهرة مع أسرته، التى نقلها من الصعيد إلى حى السيدة زينب.

بدأ الشيخ عبدالباسط رحلته الإذاعية فى رحاب القرآن الكريم منذ عام ١٩٥٢م فانهالت عليه الدعوات من شتى بقاع الدنيا فى شهر رمضان وغير شهر رمضان.. كانت بعض الدعوات توجه إليه ليس للاحتفال بمناسبة معينة، وإنما كانت الدعوة للحضور إلى الدولة التى أرسلت إليه لإقامة حفل بغير مناسبة، وإذا سألتهم عن المناسبة التى من أجلها حضر الشيخ عبدالباسط فكان ردهم بأن المناسبة هى وجود الشيخ عبدالباسط، فكان الاحتفال به ومن أجله لأنه كان يضفى جوًا من البهجة والفرحة على المكان الذى يحل به.

وهذا يظهر من خلال استقبال شعوب دول العالم له استقبالاً رسميًا على المستوى القيادى والحكومى والشعبي.. حيث استقبله الرئيس الباكستانى فى أرض المطار وصافحه وهو ينزل من الطائرة، وفى جاكرتا بدولة إندونيسيا قرأ القرآن الكريم بأكبر مساجدها فامتلأت جنبات المسجد بالحاضرين وأمتد المجلس خارج المسجد لمسافة كيلو متر مربع فامتلأ الميدان المقابل للمسجد أكثر من ربع مليون مسلم يستمعون إليه وقوفًا على الأقدام حتى مطلع الفجر.

كانت أول زيارة للشيخ عبدالباسط خارج مصر بعد التحاقه بالإذاعة عام ١٩٥٢ زار خلالها السعودية لأداء فريضة الحج ومعه والده، واعتبر السعوديون هذه الزيارة مهيأة من قبل الله، فهى فرصة يجب أن تجنى منها الثمار، فطلبوا منه أن يسجل عدة تسجيلات للمملكة لتذاع عبر موجات الإذاعة، لم يتردد الشيخ عبدالباسط وقام بتسجيل عدة تلاوات للمملكة العربية السعودية أشهرها التى سجلت بالحرم المكى والمسجد النبوى الشريف «لقب بعدها بصوت مكة».

ومن بين الدول التى زارها «الهند» لإحياء احتفال دينى كبير أقامه أحد الأغنياء المسلمين هناك.

لم يقتصر الشيخ عبدالباسط فى سفره على الدول العربية والإسلامية فقط وإنما جاب العالم شرقًا وغربًا.. شمالاً وجنوبًا وصولاً إلى المسلمين فى أى مكان من أرض الله الواسعة.. ومن أشهر المساجد التى قرأ بها القرآن هى المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوى الشريف بالمدينة المنورة بالسعودية والمسجد الأقصى بالقدس، وكذلك المسجد الإبراهيمى بالخليل بفلسطين والمسجد الأموى بدمشق وأشهر المساجد بآسيا وأفريقيا والولايات المتحدة وفرنسا ولندن والهند ومعظم دول العالم، فلم تخل جريدة رسمية أو غير رسمية من صورة وتعليقات تظهر أنه أسطورة تستحق التقدير والاحترام.

يقول عنه ابنه القارئ طارق عبدالصمد إن الشيخ عبدالباسط يعتبر القارئ الوحيد الذى نال من التكريم حظًا لم يحصل عليه أحد بهذا القدر من الشهرة والمنزلة التى تربع بها على عرش تلاوة القرآن الكريم لما يقرب من نصف قرن من الزمان نال خلالها قدر من الحب الذى يجعل منه أسطورة لن تتأثر بمرور السنين بل كلما مر عليها الزمان زادت قيمتها وارتفع قدرها كالجواهر النفيسة ولم ينس حيًا ولا ميتًا.

فكان تكريمه حيًا عام ١٩٥٦ عندما كرمته سوريا بمنحه وسام الاستحقاق، ووسام الأرز من لبنان، والوسام الذهبى من ماليزيا، ووسام من السنغال وآخر من المغرب، وآخر الأوسمة التى حصل عليها كان بعد رحيله من الرئيس محمد حسنى مبارك فى الاحتفال بليلة القدر عام ١٩٩٠م..

ويحكى الابن رحلة الوالد مع المرض فيقول تمكن مرض السكر من الشيخ، وكان يحاول مقاومته بالحرص الشديد والالتزام فى تناول الطعام والمشروبات ولكن تضامن الكسل الكبدى مع السكر فلم يستطع أن يقاوم هذين المرضين الخطيرين فأصيب بالتهاب كبدى قبل رحيله بأقل من شهر، فدخل مستشفى الدكتور بدران بالجيزة، إلا أن صحته تدهورت، مما دفع أبناءه والأطباء إلى نصحه بالسفر إلى الخارج ليعالج بلندن، حيث مكث بها أسبوعًا وكان بصحبته ابنه طارق فطلب منه أن يعود به إلى مصر، وكأنه أحس أن نهار العمر قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.

فما الحياة إلا ساعة ثم تنقضي، فالقرآن أعظم كرامة أكرم الله بها عبده، وأجل عطية أعطاها إياه، فهو الذى استمال القلوب وقد شغفها طربًا وطار بها فسافرت إلى النعيم المقيم بجنات النعيم، وقد غمر القلوب حبًا وسحبها إلى الشجن فحنت إلى الخير والإيمان، وكان سببًا فى هداية كثير من القلوب القاسية وكم اهتدى بتلاوته كثير من الحائرين فبلغ الرسالة القرآنية بصوته العذب الجميل، كما أمره ربه فاستجاب وأطاع كالملائكة يفعلون ما يؤمرون.

وكان رحيله ويوم وداعه بمثابة صاعقة وقعت بقلوب ملايين المسلمين فى كل مكان من أرجاء الدنيا، وشيعه عشرات الآلاف من المحبين لصوته وأدائه وشخصه على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وكانت جنازته وطنية ورسمية على المستويين المحلى والعالمى، فحضر تشييع الجنازة جميع سفراء دول العالم نيابة عن شعوبهم وملوك ورؤساء دولهم تقديرًا لدوره فى مجال الدعوة بجميع أشكالها.

حيث كان سببًا فى توطيد العلاقات بين كثير من شعوب دول العالم ليصبح يوم ٣٠ نوفمبر من كل عام يوم تكريم لهذا القارئ العظيم ليذكر المسلمين بيوم الأربعاء ٣٠/١١/١٩٨٨م الذى توقف عنه وجود المرحوم الشيخ عبدالباسط بين أحياء الدنيا ليفتح حياة خالدة مع أحياء الآخرة يرتل لهم القرآن الكريم كما كان يرتل فى الدنيا.
 


 

تعليقات

اكتب تعليقك