كم سنزهق من الأرواح حتى نتعلم أن الدين لله والوطن للجميع؟!.. يتساءل فهيد البصيري
زاوية الكتابكتب أغسطس 7, 2015, 12:58 ص 506 مشاهدات 0
الراي
حديث الأيام / كم نحتاج من الدماء كي نتعلم؟
د. فهيد البصيري
في العام 1517 انقسم العالم المسيحي على نفسه للمرة الألف، وبدأت تدب فيه الفوضى من جديد، فقد خرج القسيس ( مارتن لوثر) في ألمانيا عن الإجماع المسيحي، وسخر من صكوك الغفران التي كانت توزع في ذلك الوقت على المؤمنين مقابل مبلغ من المال يتم تحصيله لبناء كنائس تليق بالمسيحيين، وقد وضع لوثر على باب كنيسته إعلاناً يحتوي على خمسة وتسعين بنداً كلها تساؤلات حول تصرفات الكنيسة الكاثوليكية.
وبالطبع لم يكن لوثر أول من حاول تصحيح ما يراه خطأ من وجهة نظره، فقد سبقه القسيس (يان هوس) إلا أنه أعدم حرقاً بتهمة الهرطقة، وكان أساس حجة لوثر في ذلك، أن الرب لا يحتاج للمال كي يغفر للمؤمنين، وما يهم هو الإيمان وكل ما عدا ذلك غير ضروري. وزاد الطين بِلة عندما قال إنه ليس هناك داعٍ لشفاعة الكنيسة أو رجال الدين فليس بين العبد وخالقه وسيط، وكعادة رجال الدين التقليديين، اتهم لوثر بالهرطقة، وأبيح دمه، ولكنه نجا بأعجوبة ليكتب ظهور المذهب البروتستانتي.
ولم يكن لوثر هو القسيس الوحيد الذي اعتزل الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الزمن بل شهد عصره ظهور القديس (كالفين) في جنيف، وهذا أنشأ مذهب (الكالفينيين) وفي نفس الحقبة ظهر قسيس آخر في زيورخ اسمه (زويغلي) وأنشا له مذهباً جديداً، وكذلك انفصل عن الكنيسة الأم، ومع أن تعاليمهم متشابهة تماما إلا أنهم لم يكونوا رحماء بينهم بل أحكموا السيف في رقاب بعضهم.
في تلك المرحلة وعلى الطرف النائي من القارة الأوروبية وتحديداً في بريطانيا كان يعيش ملك فاسق ضاق ذرعاً بأوامر الكنيسة وتدخلاتها، وفي يوم من الأيام أراد أن يطلق زوجته فرفض بابا روما طلبه، فغضب وأنشأ له كنيسة خاصة لتسمح له بالطلاق، ولكن الكنيسة كفرته فقام بقطع علاقته بالبابا وبالكنيسة الكاثوليكية دفعة واحدة، وقد بقى كاثوليكيا مؤمنا وحارب أتباع لوثر بضراوة، ورداً على هذه الانشقاقات، هب فارس اسباني يدعى اغناطيوس لنجدة الكنسية الكاثوليكية من هؤلاء المرتدين وكون جمعية للأخوة (اليسوعيين) ومن هنا بدأت الحرب الطائفية على شكل حروب مذهبية متقطعة واستمرت لمدة مائة عام.
ومع ذلك لم يفهم أحد الدرس، ففي عام 1618 قام عدد من البروتستانتيين الغاضبين برمي مستشارين من الكاثوليك من النافذة على روث للماشية، وطبعاً لم يصابوا بأذى، ولكن هذه الحادثة البسيطة أدخلت أوروبا كلها في حرب طائفية طاحنة لم تتوقف إلا بعد 30 عاماً بالتمام والكمال.
ويصف المعاصرون لهذه الفترة وطبيعة هذه الحرب وغرابتها فيقولون: لم نعد نعرف ماذا يريد المتحاربون فالكاثوليكي يحارب في صفوف الجيش البروتستانتي!، والبروتستانتي يحارب في جيش الكاثوليكي!، والكل يدمر وينهب باسم الدين، وحيثما حلت هذه الجيوش حلت معها المجاعة والقتل، وقد انضم لهذه الجيوش كل من ليس لديه رزق أو عمل، وصار أعتى المجرمين هم أبطالها، ومع زيادة الفقر لم يجد الناس سبيلاً للعيش سوى الانضمام لهذه الجيوش، وتوقفت الحياة اليومية لملايين البشر، واختفت الحرف والمهن، ولم يعد يعرف الرجال أي حرفة سوى الحرب والقتل.
ومع استمرار الحرب مات أغلب من تسبب في بدايتها، ومات أغلب قادتها الأوائل، وتغير الحكام والملوك، ولكنها ظلت مستمرة تأكل الأخضر واليابس، وبعد 30 عاماً من الحرب العبثية اجتمع الحكام في عام 1648 لإيقافها، وبعد مشاورات معقدة توصلوا إلى الحل وهو العودة إلى الأوضاع السابقة قبل الحرب وكأن شيئاً لم يكن! وتركوا البروتستانتي بروتستانتيا والكاثوليكي كاثوليكيا واليسوعي يسوعيا وكأنك «يا أبا زيد ما غزيت».
ترى إلى أي درجة يشبه ما يحدث في العالم العربي اليوم ما حدث في الحروب الطائفية المسيحية، وكم نحتاج من السنوات لكي نتجاوز ما نحن فيه، وكم سنزهق من الأرواح حتى نتعلم أن الدين لله والوطن للجميع.
تعليقات