ذكريات في أيام الاحتلال - يكتبها عبدالعزيز العويد

زاوية الكتاب

كتب 4335 مشاهدات 0


قراءتي في كتب الرحلات والذكريات - وعندي منها ما يقرب من ألف كتاب - حبب إلي التدوين الشخصي ولو بغير رغبة في النشر لبعض ما مر بي من مواقف ، وقد كنت أكتبها إجمالا،  وأما اليوم فأكتبها مفصلة بذكر اليوم والساعة أحيانا.
وقد كان من أهم محطات حياتي مرحلة الاحتلال العراقي للكويت - لا أعادها الله من ذكرى - ، وقد كتب كثيرون عن حوادث تلك الأيام ، فأحببت أن أشاركهم بذكر مختصر لما جمعته من ذكريات ، وتركته مفصله لعله يخرج في حين آخر ، وساقتصر على إيراد المهم على صورة جمل مختصرة ، منفصل بعضها عن بعض دفعا للملالة ، مع التنويه أن بعضها متعلق بغيري لكني كنت شاهدا عليه ، والمراد  التعريف بجزء ما زال مهملا حول ناس عاشوا في الكويت أيام الاحتلال وبقيت ذكرياتهم طي النسيان ، فهاكم خبرها موجزا ، لعله يكون لغيري محفزا.

افتخار بتنظيف الطرقات والمساجد

- يوم الغزو العراقي كان يوم الخميس 2 أغسطس سنة 1990 م ، وكان عمري يومئذ 17 عاما .
- أول كلمة سمعتها في الغزو العراقي هي كلمة الوالد - حفظه الله - في الساعة السادسة صباحا لما أخبره خالي - رحمه الله - بدخول القوات العراقية ، قال الوالد : لنا الله ، الله يكفينا شرهم .
- رأيت تدافع الشباب في صباح يوم الغزو العراقي على مخفر منطقة الصليبية للتطوع دفاعا عن الكويت .
- تطوعت مع كثير من شباب المنطقة في الأماكن الحيوية لخدمة أهالي الصليبية ( الجمعية التعاونية - فرع الغاز - المستوصف ( .
- عملت مع جماعة من الشباب كانوا يعملون بفخر واعتزاز  من أول يوم في الغزو العراقي في تنظيف المنطقة من القمامة ، وجمعها في سياراتهم الخاصة ، ثم يحرقونها في مكان بعيد ، ولا أدري كيف تم عملهم بعد ذلك .

غابت العصبيات وحضرت التضحيات
- تنوعت تضحيات رجال وشباب منطقة الصليبية كغيرها من المناطق ، ولذا فمن بين أهالي المنطقة - وهم كثير - من قتل دفاعا عن الكويت ، ومنهم من أسر ، ومنهم حمل السلاح وقاوم،  ومنهم من تطوع في المساجد والجمعيات والمستشفيات والمقابر والأماكن الحيوية الأخرى .
- كان العمل التطوعي يجمعنا فنعرف بعضنا بالاسم والكنية فقط ، فما كنا نميز أسرة ولا قبيلة ولا مذهبا ولا جنسية ، نحن كويتيون ، ونعمل من أجل الكويت فقط.
- عملت بائع رف في جمعية الصليبية ، ثم نقلت إلى الإدارة في شئون الموظفين،  وكان العمل الإداري شكليا،  فالكل يعمل بدافع وطني تطوعا .
توزيع الأموال على الأسر ومداهمات لم تنقطع
- توليت مع بعض الإخوة توزيع الأموال على الأسر في منطقة الصليبية ، وكنا نستقبلها من الحكومة الكويتية عن طريق الإخوة ذوي الصلة بهم ، وقد كانت لحظات صعيبة ونحن نجتمع في بيت أحد الإخوة لتقسيم المبالغ المالية،  ثم نحملها في السيارات ونمر على نقاط التفتيش ولو رأى أحدهم أسفل أقدامنا لكانت نهايتنا ، لكن الله هو الحافظ سبحانه .
-    لم تنقطع مداهمات المنازل حتى الضربة الجوية ، وكانت من أجل البحث عن مطلوبين أو عسكريين.
- قال مرة أحد الضباط العراقيين وهو يرى البطاقات المزورة : والكويت ما فيها أحد عسكري ، كلهم يشتغلون في الجمعيات ؟!!

ولنا مع المخابرات العراقية وقفة
- كنا مرة جلوسا في مكتب مدير السوق فدخل علينا أحد أفراد الاستخبارات العراقية فقال لي : أنت فقير ؟!
قلت : لا !
قال : ليش مقصر ثوبك؟ !!!
قلت : سنة !
قال : ما في سنة ، بكرة تجي مطول ثوبك !!
قلت - ولا أعي ما أقول : ما راح أقصر !
فصار يصرخ حتى أخرجني مدير السوق !
- جاءنا رجل آخر من الاستخبارات فقال لصاحبي خالد الفضلي : أنا سلفي ، وأريد كتب ابن تيمية ، تعالي مخفر الشرطة وجيبهم معاك !!
ترك صاحبي العمل التطوعي واختفى في بيته طوال مدة الاحتلال !!
- حاصر قوات الاحتلال جمعية الصليبية يوما وألقوا القبض على مجموعة من الشباب المتطوع في الجمعية وكانوا يعلمون في الجيش الكويتي ، ويستطيعون التخفي لكنهم رغبوا في المشاركة التطوعية ووقعوا أسرى منهم صالح سلمان الخالدي ومبارك قطامي الشمري وصالح نجم الشمري وجماعة لا أذكرهم .

إمامة المساجد وتقليد أصوات القراء
- بعد خروج الأئمة والمؤذنين العرب تولى شباب المنطقة الإمامة والأذان، وكنت أصلي إماما في مسجد أويس القرني في منطقة الصليبية ، أشرف مع الإخوة على الإمامة والخطبة والأذان وتنظيف المسجد .
- كلما سمعت صوت الشيخ أحمد العجمي تذكرت أيام الغزو العراقي،  فقد كنا نشغل صوت المسجل بصوت الشيخ أحمد العجمي ونحن نقوم بتنظيف المسجد .
- وبالمناسبة كنت حريصا على تقليد صوت القارئ الشيخ أحمد العجمي ، فقد كنت أعيد الشريط مرارا لتقليد صوته،  ثم صرت أقلد صوت القارئ الشيخ خالد القحطاني .
- كنا نعيش غالبا لحظات خوف وقلق لا سيما في أيام الضربة الجوية وكانت قبل التحرير والتي استمرت تسعة وثلاثين يوما ، ولذا كنا نجمع بين الصلاتين.
- أول درس ألقيته في المسجد كان عن الجمع بين الصلاتين لعذر الخوف،  لأن أحد المصلين أنكر علي الجمع ، فحفظت كلام ابن قدامة في ' المغني ' وسردته على المصلين،  وكل شيء في يرجف من اللسان إلى الجنان مرورا بالأركان !!

طلب العلم أيام الاحتلال
- كنا نرى طلب العلم أيام الاحتلال فرصة للاجتماع وقضاء الوقت بشيء نافع وتخفيف القلق الذي لم يغب طوال تلك الأيام .
- كنت أحفظ قبل الغزو العراقي عشرة أجزاء من القرآن الكريم ، فلازمت شيخي عبد العزيز عاني البراك السعدون - وفقه الله - وقد كان حافظا للقرآن وللمعلقات العشر، لغويا ، فصيحا،  فأتممت عليه حفظ القرآن كاملا في الغزو ، وحفظت ' عمدة الأحكام ' في الحديث ، ومعلقة امرئ القيس ، و ' أبيات الاستشهاد ' لابن فارس ، ودرست عنده ' زبدة التفسير' للشيخ محمد الأشقر في تفسير القرآن ، و ' الآجرومية ' و ' قطر الندى ' في النحو ، وحفظت - نعم وحفظت عنده ' تيسير مصطلح الحديث ' لمحمود الطحان ، وقد ألزمنا بحفظ الكتاب مع أنه يدرس ، و ' الواسطية ' و ' الحموية ' لابن  تيمية ، وغير ذلك من الكتب .
- ومن غريب أمره وأمرنا - وقد كنا ثلاثة طلاب عنده - أنه كان يراجع معنا المحفوظات ويراجع الدروس كل يوم ، وكان يضربنا بالعصا بقدر الأخطاء،  فكنت أضرب أحيانا عشر عصي ، وأخبركم سرا لا يعرفه حتى هو أنني خرجت مرة بعد الظهر غضبان من أثر الضرب ، وجلست خلف المسجد أبكي من شدة الضرب،  وحدثت نفسي أن لا أرجع إليه أبدا ، فرجعت بعد العصر  شوقا لمجلس العلم !
- كنا نجمع بين العمل التطوعي في المساجد والجمعية وبين الدروس ، ولم تنقطع الدروس إلا أيام الضربة الجوية لصعوبة الخروج من البيت في كل وقت

الدراجات الهوائية وخبز الشعير
- البيوت الشعبية في الصليبية لا تكن الناس من حر ، ولا تحميهم من قر ، فكيف بالصواريخ والمدافع ؟!!
ولذا فقد سكنت أسرتي – ومثلها كثير -  في سراديب بيوت في منطقة الأندلس طوال مدة الضربة الجوية ، وكنت أتنقل - والناس كلهم كذلك -  بين الأندلس والصليبية مشيا على الأقدام مرات ، أو على الدراجات الهوائية مرات أخرى،  وإن كان التنقل نادرا لصعوبة الوضع الأمني حينها.
- كانت الأيام الأخيرة في الغزو العراقي الذي استمر سبعة شهور صعبة جدا ، انقطعت فيها الكهرباء ، وقل فيها الماء والطعام ، وقد أكلنا خبز الشعير في آخر الأيام !

مدير فرع بنك من البدون يحفظ العهدة كاملة طوال أيام الاحتلال
- أحد الإخوة من البدون ، وأسرته قديمة في الكويت ، كان قبل الغزو العراقي مديرا لفرع لأحد البنوك، فقام في أول يوم في الغزو وحمل جميع الأموال وتقدر بعشرات الألوف وحفظها في بيته معرضا نفسه وأهله للخطر،  وبعد التحرير أرجع المبلغ كاملا ، فأعطي شهادة تقدير لعمله الكبير .
شهادات التقدير ما زالت محفوظة للذكرى فقط !!
- أول صلاة جهرية أممت المصلين فيها بعد التحرير كانت صلاة المغرب في مسجد علقمة بن قيس في منطقة الصليبية ، وقد ازدحم المسجد بالناس وفيهم جنود سعوديون، فقرأت آيات من سورة الأنبياء وأولها : '  إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) .
- حصلت كغيري على شهادات شكر وتقدير من الجمعية التعاونية والجهات التي كنا نعمل معها أيام الاحتلال لتوزيع الأموال ، وما زلت احتفظ بمصورات تلك الأوراق للذكرى فقط !!
- كلمة أخيرة  ...  غيري كثير  من الموجودين  عندهم أضعاف ما عندي من الأعمال التطوعية بل ومن التضحيات ، ويحتاجون إلى تخليد وتقدير ذلك الدور البطولي،  فليس الموت في سبيل الله دفاعا عن الكويت الكويت فقط هو دليل الحب والانتماء، إذ المراد إثبات الولاء حيا كان الشخص أو ميتا .
اللهم احفظ الكويت وأميرها وشعبها من كل مكروه .

عبد العزيز سعود العويد

كتب: عبدالعزيز العويد

تعليقات

اكتب تعليقك