خليل حيدر يكتب: هل في الجنة مكتبات؟!

زاوية الكتاب

كتب 609 مشاهدات 0


الوطن

طرف الخيط  /  هل في الجنة.. مكتبات؟

خليل علي حيدر

 

لم يكن الاديب والكاتب المعروف «عباس محمود العقاد» يتشاءم من شيء في الحياة مطلقا، فقد كان يتحدى التشاؤم، ولا يؤمن به، حتى انه كان يتحدى رقم 13 الذي يتشاءم منه الكثيرون.
ويضيف الاستاذ «طاهر الطناحي»، في مقدمة لبعض كتب العقاد، ان الاديب المصري الكبير، «كان يسكن منزلا بمصر الجديدة يحمل هذا الرقم، وكان الرقمان الاولان من تليفونه قبل التغيير الاخير هما 13، وقد بدأ منزله بأسوان يوم 13 مارس، وقسم كتبه 13 قسما، واحتفظ بتمثال للبومة كان يضعه على مكتبه، ومن الغريب انه دُفن في اسوان يوم 13 مارس 1964».
كان العقاد يكره الموت ولا يخشاه، ولم يكن يطمع ان تدوم حياته الى سن المائة، وكان يرى ان الابن يأخذ متوسط عُمَري أبيه وأمه، فكان يتوقع ان تنتهي حياته قبل الثمانين، وكان من مواليد 1889، وبالفعل توفي وعمره نحو 75 عاما.
«عرض لي حادث دون السابعة من عمري اتمثله الآن كأنني حضرته منذ يومين وهو حادث الوباء الذي كان معروفا باسم الهيضة أو الهواء الاصفر في اسوان.
أقفرت المدينة شيئا فشيئا من سكانها.
مات كثيرون منهم ورحل آخرون، وخلا الشارع الذي اقيم فيه فأغلقت الحكومة ابوابه ولطختها بالعلامة الحمراء التي معناها ان هذا البيت قد زاره الوباء.
ومن لحظة الى لحظة يتراءى في الشارع نعش عار يمشي من ورائه رجلان أو ثلاثة، وقد يكون بينهم وبين حمل هذا النعش مسافة الطريق، وتوصيلةٌ أخرى من توصيلاته التي لا تنقطع طول النهار.
واذا نزلت الى شارع النيل حيث كان يطيب لي التجوال على غير هدى، وجدته مقفرا من الناس، ومن حين الى حين تعبر في النيل سفينة شاردة لا نجترئ على ملامسة الشاطئ خوفا من العدوى. ويصيح منها صائح كلما لمح على المورد زميلا يسأله عن الخير.
- كم المحصول اليوم؟
فيجيبه: مصري كامل.. أو مجيدي.. أو بنتو.. أو نصف جنيه فقط في أسلم الايام.
ما هذا المحصول؟ وما هذه العُملة التي يحسبونه بها؟
إنها تهكُّم المصائب الوجيع!
انه عدد الموتى في ذلك اليوم: جنيه مصري كامل أي مائة ميت، ونصف جنيه أي خمسون، ولم أسمع قط ذكر الريال الا في ختام الموسم الشنيع: موسم الحصاد!».
(أنا، بقلم عباس محمود العقاد، كتاب الهلال 1964، ص34 – 35).
لم يخل «العقاد» من المشاعر الميتافيزيقية: «لديَّ صفة عجيبةٌ اعتزّ بها أيما اعتزاز. وهي ان لديّ حاسة سادسة لا تخطئ، ففي احد الايام – وكنتُ بأسوان – سألت أخي فجأة عن صديق لي لم أكن قد رأيته منذ مدة، وفي المساء جاءتني برقية تنعي ذلك الصديق، وقد تبينت بعد ذلك انه قد توفي في اللحظة نفسها التي تذكرته فيها، وقد تكررت مثل تلك الحوادث كثيرا، حتى عرف عني اصدقائي هذه الصفة».
ولا توحي مذكرات العقاد وتحليلاته بالجانب العاطفي في شخصيته ولكنه، يعترف بهذا الجانب الذي لا تعكسه صورته، يقول: «انا وفيٌّ جدا لأصدقائي من الاحياء والاموات كما انني وفيّ لذكرياتي، واعتز بها كل الاعتزاز، وقد كنت شديد التعلق بوالدتي، وعندما كنت ازور اسوان كان اول ما افعله هو ان انزل من القطار واهرع الى غرفة والدتي، والتصق بها.. فلما توفيت الى رحمة الله لم ادخل غرفتها حتى الآن، كيلا أراها فارغة منها، حتى الشوارع التي كنت أغشاها مع صديقي المازني – رحمه الله – لم استطع ان أغشاها بعد مماته، وصرت أتجنب ما يذكِّرني بفجيعتي فيهما حتى لا احزن من جديد». (ص38).
الحق، كما يرى العقاد، اننا بين أمرين اثنين لا ثالث لهما! «فإما ان تكون الحياة جديرة بأن نحياها، وإما ان يكون الموت جديرا بأن نموته.. ولا خيار بعد هذا الخيار».
ولكن هل نملك حقاً مثل هذا الخيار؟
كانت قناعة العقاد ان التقدم في العمر لا يؤثر في الكاتب تأثيره في «العاملين بالعضلات»! ذلك «ان السن مكسب للعاملين بالقلم»، فيما يصيب العضلات بالضعف والوهن. ولكن تبقى الحياة جميلة في رأي العقاد، مهما تقدم العمر: «كنت احب الحياة كعشيقة تخدعني بزينتها الصادقة وزينتها الكاذبة، فأصبحت احبها كزوجة اعرف عيوبها وتعرف عيوبي، ولا اجهل ما تبديه زينة وما تخفيه من قبح ودمامة..» (أنا، عباس العقاد، ص258).
اشتهر العقاد بالقراءة وتنوع المواضيع التي عالجها والنهم الى المعرفة، يقول ممازحا توفيق الحكيم: «صديقنا الاستاذ توفيق الحكيم تخيلني في بعض كتبه قد دخلت الجنة وذهبت اطوف بين ارجائها عسى ان ارى وجهة مكتبة أقف أمامها وأتأمل عناوين الكتب فيها، فلما طال بي المطاف ولم اجد مكتبة ولا كتبا ضجرت منها وطفقت أقول: «ما هذا؟ جنة بغير كتب؟».
وصديقنا الحكيم لم يبالغ في تخيله، لأنني فعلا لا استطيع ان اعيش في جنة لا اطلع فيها.. نعم لا اطلع فيها، وليس من الضروري ان اقرأ في كتاب. 
يجب ان نطلع في الجنة لأن الساعة الحاضرة فيها لا تكفينا، ومن حقها علينا ان نعرفها ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وان نحيط فيها بشعورنا وشعور الآخرين الذين اختبروها غير خبرتنا، وشهدوا منها غير ما شهدناه، فإن لم تكن لنا وسيلة الى ذلك غير الكتاب فليكن الكتاب في الجنة، ولا يعقل ان تنقص الجنة حيث تكمل المدن العامرة في هذه الدنيا». (ص159 – 160).
في حوار له مع «طاهر الطناحي»، اجاب العقاد عن سؤال له فقال: «انني لا اتمنى ان اصل الى سن المائة كما يتمناه غيري، وانما ان تنتهي حياتي عندما تنتهي قدرتي على الكتابة والقراءة، ولو كان ذلك غدا».

الوطن

تعليقات

اكتب تعليقك