خليل حيدر يكتب: بلد بلا مخطوطات!
زاوية الكتابكتب يونيو 25, 2014, 12:28 ص 888 مشاهدات 0
الوطن
أفكار وأضواء / بلد.. بلا مخطوطات
خليل علي حيدر
عُرف أهل النجف بالعراق، يقول د.محمد النويني، بحب الكتب والقراءة، وتأسيس المكتبات بنوعيها الخاصة والعامة، حتى قيل عنهم انهم «صرعى الكتب والمكتبات»، وتداولوا أقوالاً مثل «ان زكاة الكتاب اعارته»، أو «ان زكاة الكتاب رعايته»، لمن كان يضن بكتبه ولا يعيرها. وقد قيل في ذم اعارة الكتاب ما قيل، مثل «من يعير كتبه فهو غبي، ومن يعيد الكتاب اليه أغبى منه»! ويقول د.النويني، ان المؤرخ جرجي زيدان يشير الى ان النجفيين «قد خصصوا في المدينة سوقاً خاصاً لبيع وعرض الكتب عن طريق المزايدة، ويقام في كل يوم خميس وجمعة». (تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان، جـ 4، ص 129).
وقد حاولت مجلة البيان النجفية تقسيم المكتبات الى قسمين: البائدة والحاضرة. ومن المكتبات البائدة، تقول المجلة في عدد 22 مارس 1948، المكتبة الحيدرية؛ أول مكتبة انشئت في النجف داخل «الحضرة العلوية»، وكانت مخزناً للكتب النادرة والمخطوطات، وفيها مصحف بخط الامام علي بالخط الكوفي؛ كما تقول المجلة.
ومن هذه المكتبات البائدة، وعددها إجمالا 15 مكتبة، مكتبة آل بحر العلوم، ومكتبة الشيخ جعفر الكبير (1813-1743) وهو أبو أسرة «كاشف الغطاء»، التي اشتهرت بهذا اللقب نسبة الى كتابه «كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء»، وكان الشيخ جعفر «من أعلام الشيعة وله اليد الطولى في الدفاع عن النجف الأشرف في غارات الوهابية» (الصحافة النجفية 1958-1939، د.محمد النويني، بيروت 2010، ص 35).
ومن هذه المكتبات «مكتبة الشيخ فخر الدين»، التي انتقلت الى ورثته ولم يبق من كتبها المقدرة ما بين 12-10 ألف مجلد شيء.
ومن المكتبات مكتبة عبدالعزيز الصافي، التي وقفها بعد موته على أولاده فتفرقت بينهم. و«مكتبة نظام الدولة»، الذي بيعت كتبه بعد وفاته، و«ومكتبة الشيخ محمد باقر الأصفهاني»، وكانت مكتبة عامرة ولكن صاحبها باع جملة منها وحمل الباقي عند عودته الى اصفهان. ومنها مكتبة السيد علي وكذلك السيد محمد بحر العلوم، «ومكتبة النوري». ويقول د.النويني ان النوري كان «من ابرز علماء القرن الثالث عشر الهجري، وأكثرهم نتاجاً وأوسعهم اطلاعاً بالحديث وعلم الرجال، وكان يقتني الكتب ويستنسخها ويجمعها من مختلف الاقطار، وكانت له ثلاث مكتبات في النجف وطهران والهند» أما «المكتبات الحاضرة»، كما جاء في مقال المجلة عام 1948، ولا ندري كم بقي منها، فمنها «مكتبة الشيخ علي كاشف الغطاء»، وهي من اشهر المكتبات وأوسعها حيث جمعت فيها أمهات الكتب القديمة وأكثرها مخطوط. و«مكتبة الشيخ هادي كاشف الغطاء»، وهي من المكتبات النفيسة في النجف الاشرف وتحوي الكتب النادرة والمخطوطة. «ومكتبة الشيخ السماوي) (1950-1875)، الذي تولى منصب القضاء الشرعي في بغداد والنجف الأشرف واشتغل في التأليف والبحث وجمع النوادر وشراء المطبوعات وحصر المخطوطات النادرة، وبعد وفاته انتقلت 450 مخطوطة في مكتبته الى مكتبة السيد الحكيم، كما يشير كوركيس عواد في «معجم المؤلفين العراقيين».
ومنها كذلك «مكتبة السيد جعفر بحر العلوم» و«مكتبة الشيخ علي الخونساري»، وفيها ما لا يوجد في غيرها، وتزيد كتبها على ألفين مجلد بينها نسخ قديمة. ومنها «مكتبة آل القزويني»، واغلب كتبها مخطوطة تم تناقلها بين افراد الاسرة في النجف والحلة. و«المكتبة الحسينية»، وهي مكتبة عامة وفيها الكثير من الكتب الأدبية المطبوعة وكتب التاريخ باللغة العربية والفارسية مع قليل من المخطوطات بقلم مؤسسها «الحاج محمد رضا الشوشتري». والى جانب هذه المكتبات العامة، اهتم الكثير من النجفيين باقتناء الكتب وتأسيس المكتبات المنزلية، مما كان له أثره الثقافي.
دخلت الطباعة مدينة النجف متأخرة أسوة ببقية العراق الذي كان يعاني التخلف الشديد وعدم اهتمام العثمانيين بنشر الثقافة وادخال أسباب الحضارة الحديثة. ويقال ان أول مطبعة حجرية عرفتها العراق كان موضعها في الكاظمية قرب بغداد، وقامت بطباعة كتاب «دوحة الوزراء في تاريخ وقائع الزوراء» عام 1821 على يد «ميرزا محمد باقر التفليس».غير أنه يقال كذلك ان أهمية هذا الكتاب طبع بأمر من داود باشا في بغداد عام 1830.ويقول المؤرخ العراقي «رفائيل بطي» انه كانت هناك صحيفة عراقية سبقت «الوقائع المصرية» في الصدور تسمى «جورنال العراق» أسسها داود باشا سنة 1816، وكانت تطبع في مطبعة حجرية باللغتين العربية والتركية.ومع أنه لم يعثر على أية نسخة من نسخ تلك الصحيفة، فان بعض الفرنجة الذين زاروا العراق في تلك الحقبة ذكروها في كتبهم التي ألفوها عن رحلاتهم. (تاريخ الطباعة في الشرق العربي، د.خليل صابات، 1965، ص 296-295).
ويضيف د.صابات أنه بعد الفراغ من طباعة كتاب «دوحة الوزراء»، توقفت المطبعة عن كل انتاج، وظل العراق بلا مطبعة حتى سنة 1856، معتمداً على الكتب الواردة من اسطنبول والقاهرة، الى ان فكر أحد الفرس في انشاء مطبعة حجرية في مدينة كربلاء.وأول كتاب صدر عنها يحمل تاريخ 1856، وأغلب مطبوعات تلك المطبعة كان يختص بأعمال تجارية وكتب أدعية ورسائل تتعلق بزيارة مراقد أهل البيت.وقد توقفت المطبعة نهائياً قبيل الحرب العالمية الأولى.وأكبر الظن، في تخمين د.صابات، «أنها لم تستطع منافسة مطابع الحروف التي كثر عددها في بغداد مطلع القرن العشرين». (ص 297). وكانت الموصل أول مدن العراق في مجال الطباعة بالحروف المتفرقة، وقد أتى بها الآباء الدومينيكان سنة 1856.وكانت مطبعتهم في البداية حجرية ثم ابتاعوا فيما بعد مطبعة حروف كاملة.وقد امتازت «المطبعة الدومينكية» هذه بأنها كانت أول مطبعة في العراق ينشأ فيها مسبك لصب الحروف.ثم أضيف اليها قسم جديد خاص بتجليد الكتب وتذهيبها على الطريقة الأوروبية الحديثة.وكان العراقيون قبل ذلك يجلدون كتبهم على الطريقة القديمة.
وكان التركي الذي تجنس بالجنسية الإيرانية (الميرزا باقر التفليسي» قد أسس مطبعة دار السلام ببغداد. «وفي سنة 1961 أسس كبير من كبراء الفرس يدعى الميرزا عباس مطبعة حجر. وكان خطاطها محمد جواد الفارسي الأصل. وهكذا نجد أن مطابع العراق الأولى كانت مطابع فارسية او مطابع رهبان» (د.صابات، ص 298).
ومن المعروف ان الطباعة قد تأخرت عموماً في العالم العربي بسبب فتاوى تحريمها من قبل رجال الدين ومفتي اسطنبول، وبخاصة طباعة الكتب الدينية، ولهذا لم تظهر أولى مطابع الدولة العثمانية الا في عام 1816، وفي بولاق بمصر، عام 1822.وقد دخلت الطباعة النجف الأشرف بعد كربلاء.
ولا يشير د.النويني الى موقف فقهاء ومجتهدي الشيعة من اجازة المطابع او تحريمها، وهو مبحث بحاجة الى بحث مستقل يجرنا الى بحث تاريخ الطباعة في ايران في مقال آخر.
وكان مما عجل في دخول المطبعة الى النجف، بروزها كمركز مؤثر في الاحداث السياسية والدينية، ولا سيما ابان قيادتها للحركة الدستورية الايرانية، أي «حركة المشروطية». وهو صراع ارتبط بالصراع الدستوري الايرانية بعد ثورة 1906 وانقسام رجال الدين الى «جماعة المشروطة» اي مؤيدي الحكم الدستوري - الديموقراطي، و«جماعة المستبدة» وهم محبذو السلطة المطلقة.
وكانت «مطبعة الحبل المتين» اولى مطابع النجف في القرن العشرين فيما يبدو. وقد جلبت من الهند، حيث ارسلها السيد جلال الحسيني الى أخيه «محمد علي حبل المتين»، وباشرت طبع بعض الكتب عام 1907، واندثرت عند وقوع الحرب العالمية الأولى. ومن مطابع النجف الأولى «المطبعة العلوية» حيث اشترك بعض التجار في استيراد هذه المطبعة. وكان تأسيس المطبعة الحجرية عام 1911، ولكن في حصار النجف 1916 أذيب بعض حروفها وصُنعت منها خراطيش بنادق وتركت المطبعة الى أن أعيدت الى العمل بعد فترة طويلة عام 1922.
ومن مطابع النجف خلال مرحلة ما قبل 1958، وعددها نحو 13 مطبعة، «المطبعة الحيدرية»، التي اشتراها الشيخ صادق الكتبي وأخوه من سلطات الاحتلال البريطاني، واستخدمت لطباعة كتب كثيرة ومن المطابع «المطبعة المرتضوية» التي تأسست عام 1921، و«المطبعة العلمية»، عام 1933، و«مطبعة الفري»، 1920، التي أسسها محمد علي الصحاف، و«مطبعة الراعي»، و«مطبعة النعمان»، و«مطبعة القضاء»، و«مطبعة الآداب» (الصحافة النجفية، ص 45-42).
ويقول الراحل قاسم محمد الرجب، صاحب «مكتبة المثنى» أشهر مكتبات بغداد في القرن العشرين، ان المخطوطات تصل الى بغداد من كربلاء والنجف الأشرف، «وهي أجود ما يُعرض من المخطوطات وأندره».
ويضيف الرجب في مذكراته عن تجاربه في عالم النشر وبيع الكتب النادرة، ان «نعمان الأعظمي» سافر ذات مرة الى ايران فاشترى بعض المخطوطات، ولما عاد بها احتجزت منه في الحدود، ولم يتمكن من اخراجها واعادتها، ولكنه عند رجوعه أخبر أحمد حامد الصراف المحامي بما وقع له ليتوسط له لدى السلطات الايرانية بما له من علاقات ودية. فاشترط ان نجح مسعاه ان يأخذ احداها فوافق نعمان. ونجح الصراف حيث استخلص الكتب كلها، واختار من المخطوطات «ديوان حافظ الشيرازي»، وكان محلّى بالذهب ومزوقاً، «الا أنه بعد ان أشبع رغبته منه عاد فباعه اليه ثانية بمبلغ لا بأس به».
ويشتكي الرجب من ان البعض يأتي الى السوق بمخطوطة لبيعها وقد لفّها بمترين من القماش، وأدخلها بعد ذلك في كيس، ثم يمضي وقتاً طويلاً في وصف ندرتها، «ولكن عند فتح هذا الكنز نجد ان المخطوطة لا تساوي درهماً واحداً».
ويضيف الرجب: وتصل بعض المخطوطات من مدينة الموصل.ولكنها ليست ذات قيمة، فكلها مخطوطات كتبت في العصور المتأخرة، وأكثرها يبحث في الروحانيات والسحر و«الزايرْجه».وهذه مجموعة من الطرق تستخدم لمعرفة الاجابة الصحيحة على سؤال ما، وتعتمد هذه الطرق بوجه عام على تقدير قوة الحروف بحسب مراتبها وعلاقتها بالأرقام، وهي داخلة في نطاق علم الحفر أو علم خواص الحروف.
وبعض المخطوطات الموصلية كانت في السيمياء والطب والفلك، ولم أر لها أهمية أو قيمة علمية.وكان أكثرها يقتنيه المحامي عباس العزاوي، المؤرخ الرائد في كتابه تاريخ العراق في القرون المتأخرة ومنها «تاريخ العراق بين احتلالين» في 8 مجلدات، و«تاريخ العشائر العراقية»، وكانت له مكتبة اشتهرت بنفائس مطبوعاتها ومخطوطاتها، وقد توفي عام 1971 عن أكثر من ثمانين عاماً.
وقد زار السوق «محمد أمين الخانجي»، العالم بالمخطوطات وأشهر كُتُبي بالعالم الاسلامي، فاقتنى الكثير من الكتب المهمة وعاد بها الى مصر.وكان يستغرب كثيراً لخلو العراق من المخطوطات، وكان يتصور أنه سوف يرجع بآلاف من المخطوطات التي ربما وجدها في البيوت والطرقات لما اشتهرت به بغداد من العلم والأدب والحضارة، ناسياً ما مرّ بالعراق من كوارث، حيث «يُعد العراق أفقر بلاد العالم قاطبة بالمخطوطات اذا ما قيس بمصر واسطنبول ودمشق والهند».
وكذلك عندما زارنا الشيخ خليل الخالدي، يضيف الرجب في مذكراته، وهو -أي الخالدي- صاحب أكبر خزانة للكتب في القدس الشريف، وهي الخزانة الخالدية، وكان عائداً من الأندلس والمغرب بعد رحلة طويلة، فاندهش عندما لم يجد في بغداد ما يستحق من الذكر من المخطوطات، فعاد وهو غير مصدق، وكان ذلك في أوائل عام 1935.
ويضيف الرجب ان الكتب الخطية بيع أكثرها خارج العراق.وكان أكثر من يشتريها من الأجانب أحد يهود العراق المهاجرين الى أمريكا، واسمه «اس.يهودا».وقد جمع ما يقارب العشرين ألف مخطوطة من مختلف أنحاء العالم ولاسيما من العراق، وكان وسطاؤه في الشراء أشخاصاً كثيرين أشهرهم محمد أمين الخانجي. وقد باع «أس.يهودا» هذه المخطوطات بعد ذلك لمكتبة جامعة برنستون بالولايات المتحدة، وحفظت بمكان أمين، وعُني بها بعد فهرستها وفرزها، ويمكن لطالبها ان يطلب تصوير أية مخطوطة منها.
تعليقات