أضواء على الفلسفة الماركسية! بقلم أحمد عقله العنزي

زاوية الكتاب

كتب 4298 مشاهدات 0

د.أحـمـد عـقـله الـعـنـزي

لم تظهر الفلسفة الماركسية هكذا من العدم وبصورة مفاجئة, فهي - كغيرها من الفلسفات الأخرى - أتت كنتيجة لتراكم فكري ولتطور اجتماعي عميقين حدثا في تاريخ الغرب عموما وفي أوروبا على وجه الخصوص.ولا يمكن لأي باحث أو دارس مهتم بالفلسفة الماركسية أن يغفل جانبين أو مسارين مهمين ساعدا على ظهورها وتطورهاعند مؤسسيها ماركسوصديقه انجلز,ونعني بهما المسار التاريخي من جهة والمسار الفكري من جهة أخرى, وهما مساران يعكسان من ناحية أخرى ارتباط الممارسة بالنظرية في فكر ماركس وانجلز. سنحاول في هذا المقال السريع تسليط الضوء على هاذان المساران اللذان ساهما في ظهور الماركسية كفلسفة شقت طريقها نحو الاستقلال من بين الفلسفات الأخرى.
في مطلع القرن التاسع عشر ترسخت الثورة الصناعية وضربت أطنابها في معظم البلدان الأوروبية, فأتت الرأسمالية باعتبارها نظام اقتصادي جديد ورديف للتطور الصناعي الذي ساهم في تغير أمرين مهمين هما تغير وسائل الانتاج التقليدية من ناحية وتغير البنى الاجتماعية من ناحية أخرى.ففي بريطانيا بدأت الرأسمالية تشق طريقها نحو النمو المتصاعد مما ساهم في تغيُر البنية الاجتماعية للمجتمع البريطاني التقليدي وتمثل ذلك في صعود الطبقة البرجوازيةالتي تألفت من ملاًك المصانع وصغار التجار كما تقلصترويداً رويداً سطوة طبقة المحافظين اتباع الكنيسة ونشأت بالمقابل طبقة جديدة هي طبقة العمال, أما على المستوى السياسي وكنتيجة لهذه التناقضات الجديدة في البنية الاجتماعية ومع سيطرة الطبقة البرجوازية سياسياً فقد اتسعت الهوه وتشعبت الاشكاليات بين الطبقتين البرجوازيةوالبروليتاريا بسبب الأزمات الاقتصادية للنظام الرأسمالي الجديد مما جعل الصراع بين هاتين الطبقتين أمراُ لا مفر منه, وكتطور طبيعي في صميم الحركة العمالية بدأ العمال ينظمون صفوفهم وينقلون الصراع من ميدان النضال الاقتصادي الذي كان ينحصر في مطالب العمل كالأجور وتخفيض ساعات العمل الى الميدان السياسي وهنا ظهرت الحركة الشارتية( Le chartisme ) كأول تنظيم سياسي للبروليتاريا. أما في فرنسا فكان التغيير البنيوي الاجتماعي في المجتمع الفرنسي مشابه الى حد ما لنظيرة البريطاني, فكان الصراع في بداية الأمر يتركز ما بين الطبقة الارستقراطية ورجال الدين من جهة وبين الطبقة البورجوازية التي كانت تتشكل من أصحاب المهن الصغيرة أو الحرف المنزلية وهو صراع انتج - على المستوى السياسي الفوقي- ثورة البورجوازيين عام 1789 م التي امتدت لعشر سنوات بدأت باقتحام سجن الباستيل ثم القصر الملكي بفرساي مُنهيه بذلك النظام الملكي المطلق. صحيح أن هذهالثورة كانت لصالح البرجوازية الفرنسية لكنها أفرزت من ناحية أخرى أعنف حركة بروليتارية عمالية عرفتها أورباوالتي ساهمت لا حقا في العديد من الانتفاضات العمالية مثل انتفاضات عمال النسيج في ليون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. ان البروليتاريا الفرنسية كانت لها خصوصيتها فهي بروليتاريا ذات طابع ثوري ونضالي حاد أكثر من نظيراتها البريطانية والألمانية ما جعلهاتختار الاشتراكية لا كنظرية بل كأيديولوجيا تغذي نضالها ضد البورجوازية الناشئة التي حلت محل العهد الملكي القديم, وهي لذلكاضطرت لتدشيناشتراكية يوتوبيه ( Utopie ) أي اشتراكية مشوهة لا يمكن وصفها بالاشتراكية العلمية بل كانت خليطاً بين الفلسفة الاقتصادية للاشتراكيين اليوتوبيين أمثال شارل فورييه وسان سيمون من جهة وبين تعاليم حركة الاصلاح الديني اللوثري من جهة أخرى.ويبدو أن هذا ما دفع ماركس لأن يختار باريس - حيث التقى بانجلز - مقرا أولاً لإقامته بعد مضايقات المملكة البروسية له, ليقوم بعملية تصحيحية في صفوف البروليتاريا الفرنسية التي رآى فيها مناخاً خصباً لانطلاق ثورة عمالية شاملة. أما في ألمانيا فطبيعة الصراع كانت أيضا مختلفة نوعا ما, فأمام تصاعد البروليتاريا كقوة اجتماعية ناشئة وكطبقة مطحونة قوامها الفقراءالذين غالبا ما كانوا من اليهود!وكذلك أمام بداية تفكك التحالف التقليدي بين الاسر الارستقراطية الحاكمة ورجال الدين وجدت الطبقة البورجوازية نفسها مضطرة للتحالف مع أعدائهاسواء من الطبقة الاقطاعية أو طبقة البروليتاريا.
من ذلك كله نستنتج أن الواقع الاقتصادي الاوروبي الجديد كان بحق مناخاً خصبا لنمو وتطور أفكار ماركس الاشتراكية, فقد أحدث هذا الواقع ثورة في البنى والعلاقات الاجتماعية انتجت بدورها طبقات جديدة يحكمها شكل وقانون جديد هو قانون التناحر والصراع.فالبرجوازية التي تألفت من أصحاب الحرف المختلفة في فرنسا والتينشأت لمواجهة الارستقراطيةوالعهد الملكي الاقطاعي لم تترك للبروليتاريا خياراً آخر غير تبني قيم العائلة البورجوازية لكن من موقع يوتوبي هذه المرة, فآراء الاشتراكي سان سيمون مثلاً لم تستطع معالجة المساوئ التي خلفها عهد الإقطاع وتراتبية علاقات السيد بالعبد. بمعنى آخر نقول بأن الاشتراكية الفرنسية كان ينقصها التأصيل العلمي الذي قام ماركس وانجلز بتدشينه وموضعته في سياق نظري وعملي. والحال كذلك في ألمانيا حيثتحالفتالبرجوازية مع البروليتاريا لمواجهة الارستقراطيين أيضا, بل ان البروليتاريا الألمانية المفعمة بالفلسفة المثالية الهيغلية انطلقت في بدايتها من تصور مثالي هو اقرب للبرجوازية منها للبروليتاريا, ما جعل ماركس يبحث في هذا القانون الذي يحكم هذه التحالفات وأشكالها والتناقضات التي تنشأ منها وكذلك طبيعة الصراع بين هذه الطبقات ومضامينه الانسانية والمادية على السواء, وهو قانون لا يعود - برأي ماركس - للبنى الاجتماعية ذاتها بل لتغير في النمط الاقتصادي وطبيعة قوى الانتاج والعلاقات المرتبطة بها الناتجينعن الثورة الصناعية ونمو الرأسمالية كنظام جديد فرض واقع جديد.

كان ذلك عن المسار التاريخي المادي الذي ساهم في بروز الفكر الماركسي كضرورة موضوعية وُلدت من رحم الحركة البروليتارية النضالية التي ناضلت ضد استفحال وتمدد الرأسماليةمنذ نشأتها. أما عن مسارها الفكري فيمكن القول إجمالا أن الماركسية تزامنت مع بروز منجزات علمية عديدة جعلت ماركس يشق طريقه بينها لتحديد خياراته النظرية والفلسفية وان تأثر بها بشكل واضح وكبير,وأهمها توطد فلسفة الأنوار ومادية القرن الثامن عشر التي أخذت تتعزز مع نظريات اوغست كونت في الوضعية العلمية, وكذلك استندت الماركسية على نظرياتأخرى ذات مضمون جدلي كالتطورية الداروينية ونظرية حفظ الطاقة وتحولها النوعي ونظرية البناء الخلوي للكائنات الحية, ومن هنا يشدد بعض مؤرخي وشراح الماركسية بأن هذه النظريات التي ساهمت في تقويض الميتافيزيقا مكنت الماركسية لأن تكون أولى الفلسفات التي وُلدت بعد موت الميتافيزيقا وهدفها تكريس التصور المادي للعالم, ويجب ألا ننسى أيضا بأنه بعد أن ترسخت الرأسمالية كنظام جديد أخذت شيئاً فشيئا تظهر تناقضاتها الداخلية وأزماتها الاقتصادية ما دفع الكثير من المفكرين والعلماء -أمثال آدم سميث وريكاردو وفورييه وسان سيمون - بمراجعة أسس النظام الاقتصادي الريعي القديم وتدشين اقتصاد سياسي جديد, وهي محاولات دفعت بماركس في 'رأس المال' الى السعي في أن يجعل من الاقتصاد علماً وضعياً ضمن سياق اشتراكية علمية.
لكن أهم هذه الاحداث الفكرية على الاطلاق والذي كان بحق حاضنا مباشراً للفكر الماركسي منذ نشأته هي الفلسفة الألمانية ذاتها.فالفلسفة الماركسية وُلدت على خلفية الجدل بين المذاهب الفلسفية الألمانية من كانط الى هيغل مروراً بشيلينغ وفخته.ان اختلاط هذه المذاهب انتج فلسفة مثالية يوتوبيه بحيث كان من الصعب تخطي الاشكال اليوتوبيه بدون إعادة النظر في مفهوم الجدل الهيغلي ذاته, مما أحدث خلافاًحاداً بين صفوف الهيغليين الشباب الذين تزعمهم برونوباوير وديفيد شتراوس مما أدى لانقسامهم لتيارينأحدهما اليسار الهيغلي وعلى رأسهم ماركس نفسه والآخر اليمين الهيغلي.
نقول بعد أن تعرضت فلسفة هيغل الجدلية لتأويل مثالي مفرط أدى لتراجعها وبُعدها عن الواقع وصيرورة التناقضات الطبقية وهموم البروليتاريا. بدأ ماركس يُكوِن'ماركسيته' بالعودة للعنصر الفلسفي الأصيل والأساس في فلسفة هيغل ونعني به الجدل الهيغلي واخذ بالفعل يعمل على تطويره وإغناءه بالمادية التاريخية والمادية الجدلية وذلك للخروج من الاطار المثالي للفلسفة والجدل الهيغلي.أيأن أفكار 'ماركس الشاب'بدأتبداية مثالية الطابعلكنها أخذت رويدا رويدا تنحى منحاً آخر فانتقلتمن مواقع الالحاد وشكوكه الدينية, ثم بدأ ماركس يكتشف الصعوبات التي واجهها الهيغليين لفهم نظرية التطور التي صاغهما هيغل في قالب مثالي فأخذ يستعين بالمنهج الجدلي ومنجزات العلم لفهمها وبالتالي لمعرفة سنن الطبيعة وقوانين الحياه الاجتماعية, وجاء المخرج من هذا النسق المثالي الهيغلي من خلال قراءة ماركس لفلسفة فويرباخ المادية خصوصا مؤلفات هذا الأخير وأهمها ' جوهر المسيحية' و' اطروحات لإصلاح الفلسفة' بحيث توصل ماركس بفضل فويرباخ لفلسفة تجمع بين الجدل الهيغلي والمادية الفويرباخية وتتجاوزهما في نفس الوقت,أيأنه وصل الى مادية جدلية تعتمد الصراع كصيرورة وقانون لها. وهنا تبدو المادية التاريخية والجدلية المادية بمثابة الإعلان عن فلسفة جديدة ترتكز على مادية تاريخية تنطلق من فهم التغيرات التي تحدث في الحياه الاجتماعية وطبيعة تناقضاتها وتسلك منهج المادية الجدلية لمعرفة نواميس الطبيعة وقوانينها لفهم الطبيعة والانسان معا, وبكلمة أخيرة نقول, لقدسعى ماركس لتدشين فلسفة اشتراكية علمية تساهم فيالكشفعن العلاقة الوثيقة بين النظرية والممارسة وتدعولا لمعرفة 'الوعي بالذات' بل لتثوير الواقع وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

د.أحـمـد عـقـله الـعـنـزي

الآن - رأي: أحـمـد عـقـله الـعـنـزي

تعليقات

اكتب تعليقك