أحمد عقلة يشخص عمل السلطة

زاوية الكتاب

من حكم الفرد إلى التحكم بالفرد: تاريخ وعبر

كتب 4527 مشاهدات 0

د.أحمد عقلة العنزي

السلطة : من حكم الفرد الى التحكم بالفرد

د.أحمد عقله العنزي

منذ القرن السابع عشر الى أواخر القرن العشرين كان الفكر الغربي مسرحاً لتحولات عميقة وعنيفة فيما يخص مفهوم السلطة والإرادة السياسية, ويمكن القول - بشكل عام - بأن هذا الفكر شهد شكلين من أشكال السلطة أولها السلطة المطلقة والتي تستمد شرعيتها ومبرراتها من نظرية العقد الاجتماعي Le contrat social أما الأخرى فهي السلطة الحيوية Le bio-pouvoir والتي تستمد أصولها ومنطلقاتها من الفكر الرأسمالي ومفاهيم الديمقراطية الليبرالية التي تتجه لإنتاج مجتمع صناعي عامل ومنتج, أي انتاج مجتمع طيَع يحقق ضوابط الرأسمالية وشروط الإنتاج.

تأتي الانطلاقة الأولى لتدشين نظرية العقد الاجتماعي عند أبرز فلاسفتها أمثال توماس هوبز صاحب كتاب اللوفياثان والطبيب الفيلسوف جون لوك صاحب ' رسالتان في الحكم' ثم جان جاك روسو صاحب كتاب العقد الاجتماعي, وتتمثل محاولاتهم النظرية والفلسفية في البحث عن اجابة لتساؤل مهم ومحوري في الفلسفة السياسية وهو: كيف تنشأ الدولة أو بكيفية أخرى كيف ينشأ المجتمع المدني؟

لذلك افترض هؤلاء المفكرين بأن المجتمع بلا عقد أو ميثاق أو دستور ما هو إلا مجموعة من الأفراد الذين يتناحرون وفق مبدأ أو قانون بدائي غير منضبط وهو الصراع من أجل البقاء وبما أن الهاجس هو هاجس بقاء فإن البقاء بطبيعة الحال لا يكون إلا للأقوى, لذلك وصفوا هذا المجتمع بمجتمع 'الحالة الطبيعية' حيث الفطرة وغريزة البقاء هي المحرك واللاعب الرئيسي  بل والفيصل والحكم في بقاء الفرد واستمراره وبناء على ذلك فالفرد في مجتمع الحالة الطبيعية أو الفطري لا يردعه أي رادع بل ويمتلك الحرية المطلقة في استعمال كل السبل الممكنة والوسائل المتاحة لديه لضمان بقاءه 'حياً وقوياً'. فالطابع العام لهذا المجتمع وكما وصفه الفيلسوف هوبز هو 'حرب الكل ضد الكل' فلكل فرد الحق المطلق في قتل الآخر لطالما ان المسألة مسألة بقاء ووجود, ومن هنا نسمع صوت هوبز يحذر أفراد هذا المجتمع بقوله :' اغلقوا الأبواب والشبابيك, فالإنسان ذئب بالنسبة للإنسان الآخر'.

يبدو أن هذا التصور 'لمجتمع الذئاب' ما هو إلا فرضية تصورية طرحها هؤلاء الفلاسفة لتدشين نظريتهم في العقد الاجتماعي, ولم يقدم لنا التاريخ البشري نماذج حيه لأفراد يعيشون فعلاً في العراء وبلا رابطه أو عصبة اجتماعية إلا أن فلاسفة العقد لم يغفلوا بأن الإنسان هو بالفعل اجتماعي بطبعه - كما يقول أرسطو- فكما أن الفرد ينزع ويتوق للبقاء فهو ينزع أيضا وبشكل غريزي للاجتماع مع غيره من الناس لأسباب كثيرة أهمها الحاجة والمصلحة, ومن هنا يأتي دور العقد أو الميثاق الاجتماعي ليحقق هذا النزوع الإنساني في الانتقال بالفرد من الحالة الطبيعية حيث اللانظام والفوضى وحرب الكل ضد الكل الى الحالة المدنية التي تقتضي النظام والسلام والتعاون, أي اننا لم نعد امام مجرد أفراد يتناحرون بل أمام مجتمع يحكمه نظام معين. إذن فالعقد الاجتماعي بهذا المعنى يصبح ضرورة إنسانية تفرضها ظروف معينه وهدفها الرئيسي تسوية أمرين يبدوان للوهلة الأولى متناقضين, ونعني بهما غريزة البقاء حياً وقويا وغريزة الاجتماع, فالعقد أو الميثاق هو باختصار ضرورة إنسانية يسعى الأفراد من خلاله تنظيم علاقاتهم تحت شكل من أشكال القانون بحيث يضمن - بالتالي- هذا العقد (أو القانون) استمرارية المجتمع وبقاءه الكلي. وهذا العقد هو في حقيقته اتفاق – سواء أكان مكتوباً أم شفهياً عُرفياً- يتم بين طرفين رئيسيين هما الحاكم والمحكوم بحيث يتنازل بموجبه المحكوم - للحاكم- عن حريته (

كلها أو جزء منها) في مقابل أن يضمن ويحافظ هذا الحاكم على وحدة المجتمع وكيانه, هنا يمكننا القول بأنه في حالة 'مجتمع العقد' تتم تسوية كل الحريات الفردية المطلقة والمتناحرة في حالة 'مجتمع الطبيعة' وحصرها في جسد كلي واحد وفي ضوابط محددة ما يعني استبدال فكرة الحرية الفردية المطلقة التي كان يتمتع بها الفرد في مجتمع ما قبل العقد بفكرة الحرية المسئولة المرتبط بمجموع حريات الأفراد أو حرية المجتمع ككل.

إن هذا التصور منح الحاكم - بشكل أو بآخر - سلطة مطلقة تحت ذريعة تسوية ورعاية حريات الأفراد المتناحرة بحيث أصبح من جهة أخرى الطرف الأقوى في العقد الذي تقع على عاتقه مسئولية 'ضبط الحريات' وهذا الشكل من السلطة المطلقة يتجلى بوضوح في فلسفة هوبز تحديدا الذي ربط بقاء المجتمع كله ببقاء الحاكم أو الملك وذلك باسم سيادة الحاكم المطلق, ومنح - بالتالي- هذا الحاكم أخطر امتياز وهو الامتياز المطلق لأهم الحقوق الإنسانية ألا وهو امتلاك الحق المطلق في الموت والحياة, أي أن الحاكم وبناءً على هذا الامتياز له الحق المطلق في الحفاظ على السيادة - أي سلطته - التي تضمن بدورها بقاء المجتمع وجعل الحاكم الفرد بناء على ذلك مصدر السيادة والشرعية في العقد لطالما أنه يتحمل ضمان بقاء الرعية. بل ان الأفراد في هذا التصور الرعوي للسلطة ليسوا إلا رعايا أو رعاع وقطيع يتبعون الحاكم مركز الدولة والذي يتعهدهم بناء على عقد أو دستور مبرم بينهم حتى لو كان شكلياً؟!

اذن فالحق المعبًر عنه بصيغة الموت والحياة في هذه السلطة المطلقة للحاكم هو في الواقع حق الحاكم في القتل أو الإبقاء على الحياة, أي قتل من يهدد بقاء السيادة/الحاكم والحق أيضا في اعلان الحرب مع من يهدد أمن السيادة/المجتمع. من هنا يمكننا القول بأن نظرية العقد الاجتماعي- في شكلها التقليدي-  لم تنقل الفرد من حالته الطبيعية الى المدنية فحسب بل كذلك نقلت للحاكم- هذا الشكل القانوني الجديد للسيادة, أي سيادة المجتمع في شخص الحاكم نفسه! فهي قد نقلت للحاكم الحق الذي كان يتمتع به كل فرد في حالة المجتمع الفطري في الدفاع عن حياته وحريته وحقة المطلق في القتل من أجل بقاءه على حساب الآخرين, لكن الفارق الجوهري هو أن حق إعلان الموت أو الإبقاء على الحياه قد أخذ في سياق نظرية العقد الاجتماعي شكلا قانونيا جديدا بحيث أصبح من الحقوق المطلقة للحاكم وسيادته.

لندخل في الرهان ونقول بأنه على الرغم من اختلاف فلاسفة ومنظري العقد الاجتماعي حول طبيعة العلاقة القانونية والسياسية بين الحاكم والمحكوم ومستويات الحرية الممنوحة لكل منهما أو حق الرعية في الثورة على الحاكم المستبد أو حتى إلغاء العقد والميثاق برمته ان اقتضى الأمر, نقول على الرغم من ذلك يبقى الإشكال الحقيقي لنظرية العقد الاجتماعي بأنها ظلت ردحا من الزمن مبرراً وركيزة لقيام السلطة المطلقة الأبوية والرعوية والتي تزامنت أيضا مع بروز العهد الإقطاعي وعودة سلطة رجال الدين وتحالفهم مع الحاكم الأب! أو المستبد ورجالات الإقطاع. وأمام هذا المشكل بدأ هذا التصور بالاضمحلال والاختفاء رويدا رويدا خصوصا مع توهج عصر التنوير الذي رفع شعار العقلانية والعلمانية والحرية والذي سمي أيضا بعصر الإصلاح الكبير حيث شهدت فيه البشرية بدايات الثورة الصناعية والعلمية  التقنية واختراع وسائل جديدة للإنتاج, أضف الى ذلك الثورات التي اجتاحت أوروبا وتحرير الملكية الخاصة - بما فيها السلطة!- من قبضة الإقطاع, وهذا كله دشن لمرحلة وتصور جديد في مفهوم السلطة وهي السلطة الحيوية التي أتت مباشرة بعد انحصار البورجوازية وتنامي النظام الرأسمالي الجديد.

لكن الحدث الأهم من ذلك كله هو بروز ظواهر جديدة, متشابكة ومعقده في نفس الوقت, لم يعهدها المجتمع التقليدي المرتهن للنمط التقليدي من السلطة السياسية وأهمها فكرة المواطنة. فلم يعُد الحاكم أمام مجرد رعية / رعاع بل أمام مواطنين/شعب , إنها بمعنى آخر 'ظاهرة السكان' المحددين في أمكنه مغلقة- مدن- وكل ما تحتويه هذه الظاهرة من ظواهر حيوية تستوجبها وتتداخل معها في علاقات معقدة كالمواليد والوفيات والأمراض ومواجهة الأوبئة والتغذية والصحة العامة والفقر والتعليم ومناهضة العبودية وحقوق الإنسان...الخ. وبطريقة أخرى نقول أننا أصبحنا أمام جسد اجتماعي جديد, أي ليس مجرد أفراد/رعايا يرتبطون في ميثاق ويحكمهم حاكم فرد بل جسداً حيوياً بمعنى الكلمة وهو ما فرض تغيرا في مفهوم السلطة ووظائفها واستراتيجياتها, وبناءً عليه لم تعد من مهمة السلطة الجديدة أو السلطة الحيوية كيف' تحكم' البشر؟ بل بالأحرى أصبح ديدنها كيف 'تتحكم' بالبشر؟  لذلك عدلت السلطة التي فرضتها الديمقراطية الليبرالية التي ولدت من رحم النظام الرأسمالي, نقول عدلت من استراتيجياتها التقليدية التي كانت تعتمد على 'حُكم الحياه والموت' الى ' التحكُم بالحياة وبالموت' أي أصبح هاجسها إدارة السكان إدارة حيوية اقتصادية أكثر منها سياسية.

الحقيقة نحن نتكلم هنا عن نمط جديد من السلطة لا يلغي القديم البته ولا يمكن الزعم بأنه يعلن القطيعة معه كلياً بل يخترقه من الداخل ويتجاوزه في نفس الوقت, فليس مهماً في الشكل الجديد للسلطة الانتقام للملك أو الحاكم أو ممارسة الحق في القتل أو الإبقاء على الحياه من أجل سيادة الحاكم كما هو الحال في الشكل التقليدي للسلطة المطلقة الرعوية, بل على العكس من ذلك, أصبح هم السلطة الأكبر هو تكثيف الحياه واستثمار الأفراد من أجل السلطة ذاتها أي ممارسة الحق في الإحياء أو الإماتة من أجل حياه الأفراد أنفسهم ظاهرياً وفي الحقيقة من أجل السلطة وخدمة النظام الرأسمالي والديمقراطية الليبرالية! بمعنى آخر نقول بأن السلطة الحيوية هي شكل أو مفهوم جديد للحكم والسيطرة مهمتها الرئيسية إدارة الحياه بكل تفاصيلها وتعقيداتها. ولكي تدير هذه السلطة الحياه فإنها لم تعد تعتمد على سلطة رجال الدين أو الإقطاع لتثبيت شرعيتها وسيادتها كما هو الحال في النمط التقليدي بل أصبحت السلطة تتَبع الاستراتيجيات الموضوعية والمعطيات العلمية - المعلنة أو الخفية- والتي تساهم في خلق ظروف أفضل لحياه أفضل والتي من شأنها في النهاية أن تساهم في إطالة أمد وحياة الفرد, فعندما يبحث الطب مثلا عن علاج لمرض يصيب الإنسان أو القضاء على الأوبئة فهو يسعى من جهة أخرى لخلق ظروف صحية أفضل وكذلك خلق مجتمع رأسمالي وفق شروط ومواصفات تحيله لمجتمع عامل ومنضبط.

لندخل في الرهان ونقول بأن هدف هذه السلطة الحيوية التي تعتمد على 'استراتيجيات التحكٌم'  هو أن 'تنتج' فردا طيَعا ومنتجاً في نفس الوقت, ومن هنا تأتي مؤسسات المجتمع المدني الحديث, كالمدارس والمستشفيات والمعسكرات والمصانع والسجون...الخ لتلبي وتحقق هذا المطلب 'الحيوي' للسلطة في 'ضخ وسد' حاجة المجتمع العامل أو الصناعي أو ' السوق' بأفراد نافعين ومنتجين , هذا من جهة, ومن جهة أخرى تصبح هذه المؤسسات مناخاً ومجالا رحباً بل أداةً سلطوية 'لتنميط' الأفراد والمجتمع ككل وفق ثقافة الاستهلاك والتكرار, وهي ثقافة تحددها السلطة ذاتها. هذا ما يفسر لنا أفول مشاهد القتل واحتفاليات التعذيب العلني التي كان يمارسها الملك أو الحاكم الطاغية في المحافل والميادين العامة ضد كل من يحاول الثورة عليه وذلك لتذكير الناس أولاً بسطوته وبطشه وتذكيرهم ثانياً بسلطته وحقه المطلق في حماية المجتمع الذي تعاقد معه وفق عقد أو ميثاق! أما الآن فليس مهماً أن تُقام 'احتفاليات التعذيب' أو أن يعذّب الفرد المجرم في السجن فهذا لا يفيد الحاكم الذي يحكم مجتمعاً صناعياً منضبطاً  فالمهم هو أن يتحول السجن لمناخ أو مؤسسة قائمة على معايير علمية واستراتيجيات سلطوية في الإخضاع والتطويع بحيث يصبح هذا السجن مؤسسة سلطوية قادرة على خلق وإنتاج فرداً نافعاً ومنتجاً وطيًعاً في نفس الوقت! وكذلك تتحول المدارس والمؤسسات الأكاديمية والعلمية لمؤسسات 'تنتج' أفراداً سلطويين! وقل الأمر ذاته على الجندي في المعسكر ورجل الدين في المؤسسة الدينية وهكذا.

ختاماً نقول بأن هذا التحول في مفهوم السلطة من السلطة المطلقة التي أعطت الحاكم سلطات مطلقة تحت ذريعة تنظيم أو تقنين الحريات المطلقة للأفراد الى السلطة الحيوية التي أعطت المؤسسة الحاكمة - الديمقراطية سلطة أيضا مطلقة تحت ذريعة انتاج مجتمع منضبط أو أفراد منتجين وطيعين, نقول ان هذا التحول لم يحسم مع ذلك الإشكال الجوهري المتمثل في طبيعة العلاقة الجدلية بين الحاكم والمحكوم, وبمعنى آخر نقول نقلنا هذا التحول من السلطة المطلقة للحاكم الفرد على الأفراد الى السلطة المطلقة للمؤسسة السلطوية على المجتمع ككل بحيث أصبح الأفراد الخارجين على ضوابط وشروط هذا النظام الديمقراطي أعداء للمجتمع والحاكم على السواء! إنها في النهاية وفي كل الحالات أزمة سُلطة!

 

 

الآن - رأي: أحمد عقلة العنزي

تعليقات

اكتب تعليقك