شرف الوظيفة .. بقلم عبد الحق عزوزي
الاقتصاد الآنأكتوبر 19, 2013, 8:52 م 874 مشاهدات 0
المشكلة في علوم الاقتصاد -على عكس بعض العلوم الأخرى كالطب أو الهندسة الزراعية أو الفيزياء- أنها ليست علوماً تجريبية في الأساس؛
فلا مكان لمختبرات اقتصادية تكون محطة تقام فيها التجارب لدراسة صحة الفرضية أو بطلانها، بل عادة ما تعلن الفرضية أولاً ثم لا تظهر ملاءمتها إلا فيما بعد. واتباع هذه الطريقة للوصول إلى الحقيقة مكلف للغاية. ويذكرنا الخبير البولندي كولودكو أن دول أوروبا الشرقية مرت بهذا عندما تحقق أولو الأمر عندهم، وعلى مدى سنوات، من مدى صحة الفرضيات التي وضعت حول فعالية التخطيط المركزي، الذي أسهم في حل الكثير من المشكلات في المرحلة الأولى من الاشتراكية، ولكنه انتهى إلى نظام فاشل شكل عبئاً على الاقتصاد الذي لم يعد قادراً على مجابهة الآثار السياسية والاقتصادية لهذا التحول في الليبرالية الجديدة.
تعمدت الغوص أكثر في آراء البروفيسور كولودكو لأنه غالباً ما نتناسى خبراء ومفكري أوروبا الشرقية ولا نعتمد في تحاليلنا إلا على زملائهم من أوروبا الغربية خاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا أو من الولايات المتحدة الأميركية، مع العلم أن أوروبا الشرقية تعج بخبراء ذوي نظريات وأفكار مقنعة، كما أن تجارب دولهم السياسية قد تفيد عدداً من الدول، خاصة إذا ما تمثلنا هنا قاعدة الميثاق التعاقدي، التي أوصلت الكثير من بلدان أوروبا الشرقية إلى بر الأمان من دون إراقة ولو قطرة دم، ومن دون المساس بهيبة المؤسسات الحامية لقشرة الدولة الحساسة.
يقول كولودكو إنه إذا أردنا تطبيق الاقتصاد البراجماتي- القائم على تأكيد الفرضية العلمية من خلال العمليات الاقتصادية الواقعية- فمن الضروري أن نتحرى المهارة في التنفيذ، لأن الناس ليسوا فئران تجارب؛ وهذا كلام صائب، بل إن الناس في يومنا هذا قد يصبحون أسوداً يخرجون إلى الشوارع لنزع الحكومات من كراسيها لأن سياساتهم الاقتصادية باءت بالفشل الذريع وهو ما وقع مؤخراً في اليونان وإيطاليا وإسبانيا وغيرها.
للأسف الشديد تكون الغلبة في مجالي السياسة والاقتصاد في بعض الأحيان للجهلاء أو ممن لهم شعبوية مفرطة وعقل فارغ لا يفقه شيئاً عن الشأن العام، وقد كنا كتبنا عن هذه الشعبوية في صفحات هذه الجريدة الغراء...
وعندما تكون الغلبة لأشباه العلماء، فإنهم يميلون إلى النظريات المفرطة في البساطة أكثر من ميلهم إلى البراهين العلمية المعقدة؛ ولقد لخص أندرو رينولد (Andrew Reynolds) وهو ناقد أدبي بريطاني مشهور هذا الكلام حينما كتب: “كلنا لدينا بلهاء... وقد تتمثل الإخفاقات الرئيسية المشتركة بيننا في أننا على استعداد لتصديق أكثر الترهات سخافة إذا كانت توافق قناعاتنا التافهة المثالية الأنانية المتصورة مسبقاً عن العالم، وفي أننا نظن بسذاجة أن أولئك الذين تسيطر -أو ستسيطر- خرافاتهم وكلامهم وأموالهم على عقولنا وحياتنا لم يضعوا نصب أعينهم إلا ما هو في مصلحتنا. ولا يكون البلهاء قادة سياسيين تحديداً، بل من الممكن أن تجدهم في وسائل الإعلام، والشركات متعددة الجنسيات، والكيانات الاقتصادية الأخرى، والحركات الثقافية والنظم العقائدية ومؤيدي الأيديولوجيات من جميع الأنواع”. ويقول كولودكو إن من الأفضل تجنب البلهاء، وعدم الاكتراث للبلاهة، ولكن نحن بحاجة أولاً إلى معرفة كيفية تمييز البلاهة عن المفاهيم المفهومة والمنطقية...
ولعمري إن هذا ليس بالأمر الهين سواء في علم الاقتصاد أو في باقي العلوم الاجتماعية الأخرى.
فعند الرأي العام، يكون مسمى “الاقتصادي المرموق” مرادفاً لمسمى “الاقتصادي المشهور”. وعلى الوزن نفسه يمكن القول إن مسمى “السياسي المرموق “ يكون في بعض الأحيان مرادفاً لمسمى “السياسي المشهور”، فكم من سياسي بلغت شعبويته المدى في الوصف في أوطاننا العربية، ولكن أن يبقى في بيته أفضل للبلاد والعباد من أن يسيّر ولو قطاعاً بسيطاً داخل المجال العام لأن أدواته العلمية محدودة وقواه التسييرية مفقودة! وكم من حكيم، على حضرته يمكن أن تعكف ركائب العلوم والحكم وفي منظوره التسييري يمكن أن تتحقق التنمية، وهو الصالح لهذا الزمان في حل مشكلات البطالة، ولكنه يبقى مغموراً في بيته!
فالاقتصاديون المشهورون في بعض الأحيان ليسوا أولئك الذين يكتشفون الظواهر والعمليات المهمة؛ بل إنهم أولئك الذين يظهرون على شاشات التلفزيون ويكتبون مقالات في الصحف... وما يكتبونه لا يهم كثيراً، بل إن الشهرة هي كل شيء عندهم؛ فقد تحول بعض المصرفيين المحللين ذوي الآراء المضللة الذين يحصلون على عمولات من الرعاة الإعلانيين، إلى اقتصاديين مستقلين يشكلون الرأي العام. وهكذا نرى الصحف التي قد تحوي قصاصات من الهراء تصدر بالآلاف بل والملايين من النسخ، ولكن الكتب العلمية والقصاصات العلمية التي تحوي درر المعاني لا تباع إلا بالمئات؛ وكثيراً ما يهرول الأساتذة تجاه تلك القصاصات، وكل منهما يغذي الآخر، كما يتغذى منهما الآخرون. وهكذا تصير الأمور في بعض الأحيان كما يحدث إذا طحن القمح، فالحبوب تطحن، وتبقى القشور، وتضيع السنابل! (وتلك الأيام نداولها بين الناس)...
إن أفضل علاج لهذا الداء في مجتمعات هي بين قوسين أو أدنى من الانهيار، وهذا حال الكثير من الدول العربية، هو وضع “الاقتصاديين الحقيقيين” و”السياسيين الحقيقيين” في أماكنهم الحقيقية، حتى نضع الحكمة والمعرفة في مكانهما ولا مجال للشعر والشعبوية هنا، وكل إنسان خلق لما هيئ له.
وكلنا نرغب أن يصبح السياسي وبالأخص السياسي العربي في دول كتونس وليبيا سياسياً محترفاً وقائداً حكيماً وستكون العواقب محمودة وستجري بالشكل الذي عبر عنه شكسبير في مقطوعته (رقم 102)
كان الوقت ربيعاً آنذاك وكان حبنا شاباً،
كنت أحييه كل صباح بما أصدح به من أغان.
هكذا يصدح البلبل بأغانيه صيفاً.
ويصمت اللحن من نضوج الأيام.
فالأمور لم تصل إلى هذا الحد للأسف، فازدهار الصيف ليس وارداً، ويمكن أن تنتظرنا ليال قطبية جليدية مظلمة وقاسية ولكن يمكن التغلب على كل ذلك بالسياسة الحكيمة وتحمل جهد مضن مع ما فيه من معاناة ومن بُعد نظر في ثقب ألواح من خشب قاس.
فالكثير من السياسيين في دول كتونس وليبيا يظنون أنهم يملكون وعياً سياسياً، وأنهم يجيدون قواعد السياسة ويستحيل تضليلهم وأن أدواتهم السياسية هي التي تصلح للبلاد والعباد، وأنهم ما داموا يتقنون خلفيات “الشيء السياسي” ومضامين اللعبة والخطاب السياسي فإنهم في الاتجاه الصحيح، وللأسف فإن الكثير من السياسيين يجهلون تمام الجهل مفهوم السياسة وقواعدها وأصولها... وإذا امتلكوا بعضاً من أدواتها فإنهم يستعملونها لمصالح ضيقة أو ذاتية، فليس بالسياسي من يستعمل أدواتها للانتقام الذاتي أو الجماعي، وليس بالسياسي من يستعمل السياسة لهواية كأنه يلعب لعبة الجولف مع زملائه وأحبائه، وليس بالسياسي من يقوم بزج الدين في السياسة والسياسة في الدين، وليس بالسياسي من يعرض “سلامة الدولة” للخطر... فالموظف السياسي السامي في الإدارة يجب أن يدير جهازه بشكل محايد قبل أي شيء آخر... أن تكون عنده قناعات هذا أمر طبيعي، ولكن يجب عليه أن يتجنب المنزلقات التي تجعله يستعمل اللون الخاطئ في التعيين وتحديد الأجور وأخذ القرارات الحاسمة... عليه أن يمارس وظيفته دون غضب ودون تحيز (sine ira et studio)، فالتخريب واتباع الهوى ينذران بخراب الإدارة والدولة، وغياب الضمير والمسؤولية والحس الأخلاقي تلوث شرف الوظيفة ومفاهيم تسيير الشأن العام، كما تميت الفاعلية السياسية، وعيدكم مبارك سعيد.
تعليقات