من وراء جمود السياسات الاقتصادية؟ بقلم عبدالحميد العمري
الاقتصاد الآنأكتوبر 19, 2013, 8:42 م 811 مشاهدات 0
كم هو لافتٌ إلى ما بعد حدود الذهول؛ أن يقوم الجميع من حولك بأمورٍ إصلاحية، وخطوات إعادة مراجعة، تهدف في مجملها إلى التطوير المؤدي إلى مزيدٍ من الكفاءة والإنتاجية، ولا تقفُ فقط عند مجرّد معالجة الأخطاء إنْ وجدتْ! في الوقت ذاته تنظر إلى نفسك، فتجد أنّك شبه الوحيد بين القوم، الذي لا يحرّك ساكناً، ولا يبدّل بزيادةٍ أو نقصٍ في المعطيات التي يقف كيانه عليها.
يتقدّم من يتقدّم، ويتأخر من يتأخّر، وسرعان ما تلاحظ أن من تأخّر أو فشل في إنجاز مراده، تراه قد اتخذ سبيلاً آخر ليلحق بالركب، ويعوّض قدر المستطاع ما فاته، فأنت حينئذ أمام سلةٍ من النتائج المتمايزة، منها السليم الصحيح، ومنها المعتل المخطئ، وتجدها جميعها خاضعةً باستمرار لإجراءات المراجعة والتقييم دون كلل. أمام كل تلك المشاهد الديناميكية؛ يقف ما يشبه ''التمثال'' الذي سكنتْ حركته تماماً، وكأن لا علاقة له من قريبٍ أو بعيدٍ بما يدور حوله من حراكٍ ونشاط.
أطبق ما قرأتَ أعلاه على مجال السياسات الاقتصادية حول العالم، بما فيها سياساتنا الاقتصادية! على أنّ ما جرى عليها من تغييراتٍ يصل أثرها إلى آخر أعماقها منذ نهاية 2008 إلى يومنا الراهن، صنّفته المنظمات والهيئات الدولية على أنّه الأكبر والأوسع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ حالة السكون والرتابة في أغلب سياساتنا الاقتصادية، تظل ''علّة'' بدأتْ منذ مطلع السبعينيات الميلادية، أي قبل أكثر من أربعة عقودٍ مضتْ.
قد يقول قائل؛ إن هذا غير صحيحٍ على الإطلاق، فقد حدث كذا وكذا من التغييرات، ويسترسل القائل في استعراض تغيير معدلات الفائدة، ومعدل الاحتياطي النظامي على البنوك، ومستويات الإنفاق الحكومي، ونسبها على المشروعات الرأسمالية، هذا عدا سياسات سوق العمل، والبيئة الاستثمارية، ثم سيقفز بحديثه إلى ذكر أكثر من 42 نظاماً وتشريعاً حكومياً تم إصدارها خلال أقل من عشرة أعوامٍ مضتْ!
ورداً عليه باختصارٍ شديد -لأكمل عرض الفكرة هنا ــــ إنّ الفوارق بين ما أتحدّث عنه هنا، وبين ما يذكره من ''منجزاتٍ'' يمكن بلورته في نقطتين رئيستين: النقطة الأولى ــــ أن السياسة الاقتصادية إطارٌ عام وشامل، لها أهدافها وبرامجها وخطوطها العريضة، في حين تظل أي أنظمة أو تشريعات مهما بلغ عددها مجرّد ''جزء'' من تلك السياسة العامّة، لهذا لا يوجد في عالم السياسات الاقتصادية أنظمة أو تشريعات يمكن أن تخرج بصلاحياتها على الإطار العام للسياسة محل التنفيذ، وإنْ حدث ذلك على أرض الواقع فإنك سترى عياناً بياناً حالة ''التضارب'' التي تهدر الكثير من المال والجهد، وهذا حادثٌ قائم لدينا، ويقف بتشوهاته وراء العديد من ثغرات الأداء الاقتصادي، لعل من أبرز أمثلتها كيلا يقال إن الكاتب ينظّر فقط، مسألة ''إدارة الفوائض والاحتياطيات''!
تنصُّ السياسة الاقتصادية للبلاد، وتحديداً في ''الاستراتيجية بعيدة المدى للاقتصاد الوطني 2025''، و''الاستراتيجية الوطنية للصناعة''، فيما يختص بالعائدات النفطية: ''بحكم طبيعتها غير المتجددة، تُعد رأسمالا وطنيا، يتمثّل استغلالها الأمثل في أصول متجددة، تسهم في تنويع القاعدة الاقتصادية، وتحقق التنمية المستدامة. لذا يتعيّن تعزيز الموارد العامّة غير النفطية للدولة بما يتيح تحويل الإيرادات النفطية تدريجياً إلى أصول إنتاجية، ورأسمال بشري فعّال''. بينما على أرْض الواقع وبموجب الأنظمة الجزئية لدى وزارة المالية ومؤسسة النقد، تجد أنّهما يديران تلك الفوائض خارج الحدود وما وراء البحار!
النقطة الثانية من الرد: انظر إلى نتائج الأداء الاقتصادي لديك! إنّها المحك الرئيس الذي عليه تقوم عملية تقييم السياسات الاقتصادية، وأي أنظمة أو تشريعات تعمل تحت مظلتها، لديك النمو الاقتصادي الحقيقي، ومعدل البطالة، والتضخم، والإنتاجية، والمديونية، وتوزيع الدخل، ومعدل الفقر بين شرائح المجتمع، ونسب التنويع في القاعدة الإنتاجية، ونمو الصادرات عموماً، والصادرات غير النفطية تحديداً، ونمو الواردات، وغيرها من مؤشرات الأداء الموثقة. ستجد في قراءة نتائجها تقييماً موضوعياً لكامل نسيج السياسات الاقتصادية المعمول بها في الوقت الراهن، وبناءً عليه تُبنى القرارات اللازمة.
عوداً على ذي بدء؛ المفيد في النقطة الرئيسة الثانية أعلاه، أنّها المدخل السليم لتقييم السياسات الاقتصادية، فإذا أظهرتْ قصوراً أو خللاً معيناً، فكل ما على المخطط الاقتصادي هو اقتراح الحل والعلاج والبدائل، لكن أنْ تبقى على قيد الحياة، رغم ما تظهره من فشلٍ يدفع ثمنه الاقتصاد والمجتمع، فهذا ما يتطلّب موقفاً مسؤولاً وعاجلاً من كل ذي علاقة به.
كتب الكاتب والكثير من المختصين في هذا الشأن، العديد من المقالات والتقارير، وأُلقي العديد من المحاضرات حوله، وحضر كذلك كواحدٍ من أهم محاور ورش العمل في أغلب المنتديات والمؤتمرات، بل كان من أهم المحاور التي تمّ تحليلها ودراستها، خاصةً في العقد الزمني الأخير! هل ظهرت أية نتائج لكل تلك الجهود؟ الواقع الراهن أمامنا يقول حرفياً: لا.
حسناً؛ أين الخلل يا تُرى؟ من المسؤول عن تلك السياسات الاقتصادية، كتابةً وتنفيذاً ومراجعةً؟ ما دور مجلس الشورى في هذا الشأن البالغ الأهمية؟ وماذا قام به تجاه هذا الخلل البعيد المخاطر؟ وتحديداً، ماذا فعلتْ تجاهه لجنتا الشؤون الاقتصادية والطاقة والشؤون المالية؟ ألم تدرك بعد هاتان اللجنتان المختصتان هذا الخلل؟ أم أنّهما ترتديان ''النظارة'' ذاتها التي ترتديها الأجهزة التنفيذية الحكومية المسؤولة عن تنفيذ تلك السياسات؟ هل توقّفت حدود علم وفهْم هاتين اللجنتين عند مجرد قراءة التقارير الواردة من تلك الجهات، والنقاش داخل ''صناديق'' تلك التقارير، فيما عجزتا عن الخروج عن حدودها؟ سأتابع الحديث، لأهمية هذا الأمر الذي يقف وراء الكثير من التعثرات التنموية الراهنة.
تعليقات