مؤتمر الأمة في تركيا
زاوية الكتابأحمد عقلة يكتب عن تأجيله بطلب 'خليجي' ثم إقامته
كتب أكتوبر 1, 2013, 5:35 م 4640 مشاهدات 0
كنت أحد المدعوين لحضور مؤتمر 'مصر الثورة ومستقبل الأمة' والمزمع انعقاده في اسطنبول في الاسبوع المنصرم وتحديدا في يوم الجمعة الموافق 27 سبتمبر 2013 م . وعلى الرغم من ان المؤتمر - الذي نظمه مؤتمر الأمة - قد حصل سلفاً على موافقة السلطات التركية إلا أن ضغوط الأنظمة الخليجية الرعوية والتي مورست على السلطات التركية أسفرت عن منعه عشية انعقاده. في هذا المقال سأسجل بعض الملاحظات التي تستحق التأمل وهي ملاحظات شهدتها بنفسي باعتباري أحد المدعوين لحضور هذا المؤتمر الاستثنائي!
لقد انتشر خبر منع المؤتمر عشية انعقاده وكان هذا الخبر كالصاعقة التي نزلت على المدعوين والمشاركين والمنظمين على السواء فعم الصخب واللجج أرجاء الفندق حيث سيعقد المؤتمر, وبدت علامات الاستياء والاستنكار في وجوه المشاركين بسبب هذا القرار المفاجئ والغير متوقع من قبل السلطات التركية الداعمة لثورات الربيع العربي عموما والاتجاه الاسلامي على وجه الخصوص, فشخصت العيون وكانت الدهشة سيدة الموقف فتشكلت بسرعة وبشكل عفوي الحلقات النقاشية والتشاورية هنا وهناك لمناقشة هذا الحدث المفاجئ, ورويدا رويدا اجتمعت هذه الحلقات وائتلفت في حلقة واحده كبرى غص بها المكان حول منظمي المؤتمر متسائلين ماذا عساهم فاعلون أمام هذا الخطب الغير متوقع؟
الحقيقة أن منظمي المؤتمر الدكتور حاكم المطيري - المنسق العام للمؤتمر- وسيف رشدان والشيخ الجليل حسن الدقي وكذلك الشيخ ارشيد الهاجري الذي كان يعمل بلا كلل أو ملل لإنجاح المؤتمر وتحقيق أهدافة, نقول بأن هؤلاء المنظمين- وهم بلا شك قياديين يُشار لهم بالبنان - كانوا أمام اختبار حقيقي لا يُحسدون عليه, فهل يعقدون المؤتمر ويتسببون بحرج أمام الحكومة التركية التي يبدو انها الوحيدة التي رحبت بانعقاد المؤتمر؟! أم أنهم يخذلون المشاركين الذين لبوا النداء وأتوا من كل حدبٍ وصوب ومن 13 دولة عربية واسلامية ليعودوا بخفي حُنين ويكونون بذلك قد انصاعوا للأمر الواقع؟
وبالمقابل انطلقت تكهنات الحضور - ومنهم كاتب هذه السطور- فقائلٌ لن يُعقد المؤتمر وقائلٌ آخر سيعقد في موعده وتنبأ البعض الآخر بأنه سيعُقد إبان صلاة الجمعة فتتحول خطبة الجمعة 'لمؤتمر أمة' لتعود لسابق عهدها كما كان الحال في عهد الخلفاء الراشدين! حيث كانت مؤتمراً اسبوعيا تطرح فيه قضايا الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل أن تتحول منابر الجمعة لمنابر اعلامية تمجد السلاطين والملوك وتدعو لنصرة أصدقائنا الأمريكان في حروبهم ضد الإرهاب! بل وتقدم صكوكا لقتل الشعوب ودعم الانقلابات العسكرية! يا لها من مفارقة بين الأمس واليوم!
أمام هذه التكهنات وفي اليوم الثاني - أي في يوم موعد اقامة مؤتمر الأمة - جاءت المفاجئة التي لم يتوقعها أحد من المشاركين والحضور, وهي أن المؤتمر قائم وسيُعقد لكن في البحر! نعم في البحر.
في الحقيقة لم تخطر هذه الفكرة في أذهاننا قط, وهي بدون شك فكرة ذكية لأن عقد المؤتمر في المياه الإقليمية سيرفع الحرج عن المنظمين والدولة التركية على السواء وهي كذلك خطوة تعبر عن حصافة وسلوك حكيم فليس من المعقول أن يخسر ثوار الربيع العربي تركيا التي وقفت مع تطلعات الشعوب العربية في الحرية ومناهضة الاستبداد, كما أن هذه الخطوة تعكس أيضا - وهذا مهم- روح القيادة وفن ادارة الأزمات وحُسن التصرف لدى المنظمين من قيادات أحزاب الأمة وهو ما اتضح جليا في قدرتهم على تخطي مثل هذا المأزق الغير متوقع بمباغتة 'الدول المانعة' التي تحاول محاصرة الربيع العربي بحلول غير متوقعه أيضا وهو ما نصفه دوما في علم وفن الحروب بمداهمة الخصوم أو الكر والفر! هؤلاء الخصوم وأعداء الحرية ونعني بهم الأنظمة الخليجية الوظيفية التي مارست ضغوطها - ولا استبعد انها ابتزت تركيا ومصالحها في المنطقة- لمنع المؤتمر لكنهم لم يتوقعوا بأن الأمة 'ولادة' بقياديين أكثر دهاءً ومهارةً منهم, فالأمة التي أنجبت القائد الفذ أسامة بن زيد قادرة على إنجاب قادة كحاكم المطيري وصحبه, ولا أشك لحظة بأن هذه الانظمة التي سعت بكل ما أوتيت من قوة لمنع 'مؤتمر الأمة' لو علمت بأنه سيعقد على الماء! لمنعونا من البحر أيضا, ولكن إرادة الله العزيز الجبار فوق إرادتهم وحالهم كما قال سبحانه وتعالى في محكم التنزيل : ' ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين' ألا يستدعي ذلك التفكُر والتأمل في تدبير الله عز وجل.
في صبيحة يوم انعقاد المؤتمر حضر الأمن التركي لمكان انعقاده للتأكد من تنفيذ قرار المنع الذي شمل أيضا عدم رفع اللافتات أو توزيع المنشورات وكذلك منع وسائل الإعلام من تغطية هذا الحدث الذي 'تكالبت!' عليه الدول الرعوية محاولةً 'خنقه' لكي لا يصل صوته ومداه للعالم أجمع. لكن الله سبحانه القائل في كتابة 'ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين' قادر على رعايته وتدبيره؟
بعد ظهيرة ذلك اليوم انطلقنا في حافلات الى شواطئ بحر مرمرة حيث قامت منظمة حقوقية تركية وهي جمعية مظلوم دار لحقوق الانسان بتجهيز باخرة تسع لأكثر من 800 شخص, ويا للمفارقة أن يعقد المؤتمر في هذا البحر بالذات حيث تلتقي القارة الأوروبية بالقارة الآسيوية كما ويربط هذا البحر البحر الأسود ببحر ايجه والمتوسط ليكون بالفعل مؤتمراً استثنائيا في موضوعة وأحداثه ومكان انعقاده, فقد ضاقت به اليابسة والأراضين ليُعقد فوق الماء لتصدح به- كما قال الكواكبي في مقدمة كتابة طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد 'كلمات حق وصيحة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح فقد تذهب غداً بالأوتاد!'. ففي 'جوف هذه السفينة' التي تعُب الماء عبَا انطلقت الهتافات بعد أن مُنعت اليافطات! وصدحت بها كلمات جهورية اهتزت لها أركان 'باخرة المؤتمر' من مفكرين أمثال الدكتور وجدي غنيم الذي حمَل الحضور أمانة نشر ما يُحاك للجيش المصري من مؤامرة من قبل الدولة الصهيونية وذلك بدفع هذا الجيش لضرب حماس ومحاصرة غزة مقابل الاعتراف 'بالخسِيسي' كما وصفه وقد أجاد الوصف. وكذلك كانت كلمة المفكر حاكم المطيري مفصلية في المؤتمر, فقد نبه فيها بأن ما يحدث لمصر يأتي في سياق أكبر من المؤامرة على الأمة لقتل الأمل الذي بدا ولاح مع رياح الربيع العربي, الأمل الذي تنتظره الأمة لتحررها من عهود الاستبداد لذلك تسعى هذه الأنظمة المسخ جاهده لعزل مصر عن ركب دول الربيع العربي أو الأمل الجديد لتتحول الى معقلاً جديداً من معاقل الطغيان والاستبداد والرجعية تحركها اسرائيل وأمريكا وفقا لمصالحها التي تتعارض بدون شك مع يقظة هذه الشعوب. وكان أيضا للشعراء كلمتهم فقد أجاد الشاعر السوري محمد وهبي في تجسيد ما يتعرض له الشعب السوري من قتل وابادة على يد الطاغية بشار الساقط وزبانيته وكل الدول الداعمة له عرباً وعجماً!
بالفعل كان مؤتمر الأمة معبراً بحق عن مسلسل المآسي العديدة التي تمر بها أمتنا لإسكات صوت الحق أو صوت الشعوب المغلوب على أمرها وإرادتها، نقول مآسي عديدة عاشها مفكري وقيادات النضال ضد دولة الطغيان التي جثمت على صدر الشعوب العربية والاسلامية لعقود طويلة. لقد لامست واستمعت عن قرب لجزء من هذه المآسي المريرة, فوصول معظم المشاركين لم يكُن هيِّـناً ليِّـنا بل كابد الكثير منهم المصاعب حتى وصلوا لمكان انعقاد 'المؤتمر الممنوع'، فكان سفرهم بحد ذاته جهاداً ومشقة مُضاعفة تُضاف لمسلسل الملاحقات والمضايقات الأمنية التي برعت بها أنظمتنا القمعية. لقد حدثني الشيخ الدكتور اسماعيل رديف من الأنبار أنه اضطر للسفر من العراق متنكراً لكي لا يقع ضحية ميليشيات المالكي التي تبحث عنه في كل ناحية وزاوية من زوايا العراق العظيم والذي للأسف باعته أنظمة الإقطاع والرعوية لأمريكا وحلفاؤها الفرس. بل ان هناك من الأخوة المناضلين كالشيخ الوقور محمد آل مفرح والذي أتى للمؤتمر رغم اصابته بجرح غائر في 'قدمه' نتيجة 'إقدامه' ومداحرتة لميليشيات بشار الساقط وأعوانه، وغيرهم الكثير من الشباب والشيوخ الذين أتوا وهم يترقبون ويتوجسون إيقافهم بين الفيّنه والأخرى من قبل الأجهزة الأمنية التي باتت ترصد كل من يقول 'كلمة حق أمام سلطان جائر!' هذه الأجهزة الأمنية التي تحولت لمؤسسات بوليسية مرعبة ومخيفة للمواطنين الآمنين في بيوتهم وفي بلدانهم فما بالنا بالنشطاء والمناضلين الذين حملوا هم الأمه وتحررها!
كنت أتساءل: ما الذي جعل كل هؤلاء الشباب والأبطال وهم من خيرة فُرسان العرب والمسلمين يكابدون ويتحملون كل هذه المشقة للمشاركة في مؤتمر يعُقد فوق الماء؟ لقد استشعرت بنفسي مدى الحُرقة في نفوس هؤلاء الأبطال وكذلك الألم الذي بلغ الحلقوم على الويلات التي تمر بها الأمة والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الشهداء الذين ارتوت الأرض بدمائهم الطاهرة النقية, وهو بدون شك مخاض عسير نمر به مكرهين لا راغبين للخلاص من أنظمة القمع والاستبداد والطغيان التي سادت أوطاننا منذ سقوط آخر علم للدولة العثمانية! وهي أنظمة كانت تستطيع الرحيل بهدوء مثلما أتت 'خلسه' وفي غفلة من الزمن. يقابل ذلك احساس كبير بالمسئولية لدى هؤلاء الشباب والأبطال تجاه هذه الأمة ومستقبلها وهو ما جسده فعلاً عنوان المؤتمر ' مستقبل الأمة' الذي يتطلب اعداد العدة والعتاد لمواجهة هذا المستقبل, وأول هذه العدة رص الصفوف وتوحيدها لمواجهة هذا ثقافة الطغيان واساطين الاستبداد وهذا كان بالفعل أول هدف يتحقق للمؤتمر.
في هذا المقال حرصت على أن أترك قلمي ينساب هكذا بعفوية لأنقل للقارئ الكريم مشاهداتي الخاصة حول مؤتمر استثنائي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى والتي لو أنقلها جملة وبكل تفاصيلها المرة والجميلة - في ذات الوقت- لما اتسع لها هذا المقام. ولا أجد ما اختم به هذا المقال افضل من قول الباري عز وجل : 'ولمن انتصر بعد ظُلمِه فأولئك ما عليهم من سبيل, إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم' ( الشورى: آية 41 / 42).
د.أحـمـد عـقـله العنـزي
تعليقات