الربيع العربي وخطاب الغريزة
زاوية الكتابكتب سبتمبر 23, 2013, 6:52 م 5559 مشاهدات 0
يحكي الفيلسوف ابن طفيل في رسالته الفلسفية الرائعة 'حي بن يقظان' قصة معبِّره وذات معنى، لقد تصوّر ابن طفيل انساناً وُجد وعاش وترعرع في جزيرة معزولة عن العالم وفيها كل ما لذ وطاب من المأكل والمشرب لكن مع ذلك لم يكتفي هذا الإنسان البدائي بحياة الغريزة والبهائم بل بدأ يثير الأسئلة تلو الأخرى باحثاً عمن خلقه وأبدع هذا الكون فوصل 'حي بن يقظان' في النهاية ومن خلال التفكُّر والتدبر في آيات الكون والطبيعة لضرورة وجود إله واجب الوجود- بتعبير الفلاسفة- وهذه القصة تعكس - في حقيقة الأمر- صراع الغريزة والعقل في الإنسان, فالإنسان لا يكتفي بحياة 'الأنعام والدواب' من مأكل ومشرب وتكاثر فحسب، فالله سبحانه وتعالى قد ميّز الانسان عن البهائم والحيوانات وكرمه بالعقل الذي يستوجب بالضرورة الحرية في إثارة الأسئلة وطرح القضايا المختلفة والتفكير حولها .
نستحضر هذه القصة عندما نتأمل الغاية والهدف الأسمى لثورات الربيع العربي, فهذه الشعوب الثائرة التي لم يحركها الفقر والحاجة للمأكل والمشرب كما هو الحال في خطاب الغريزة بقدر ما حركها ' عقل جمعي' - بلغة الفيلسوف دوركايم – غايته الحرية والعدالة التي لا تستقيم مع وجود الطغاة والمستبدين. أما الشعوب التي تتأمل هذا 'المشهد' - أي شعوب منطقة الخليج العربي- فالأمر فيها مختلف فعقلها الجمعي مازال ينتظر 'معجزة اصلاحية' وقد يعود ذلك لسبب رئيسي وهو الخوف من الدخول في ركب دول الربيع, لكن ما سبب تخوف وتوجس شعوب الخليج من ثورات الربيع العربي؟ وكيف استقبلت الأنظمة الحاكمة ثورات الربيع العربي وكيف وظفته لصالحها؟! والأهم من ذلك هل الثورة تستدعي بالفعل وبشكل حتمي العنف واراقة الدماء؟
إن هاجس البقاء والديمومة لدى أنظمة الحكم الوراثي التي أتت لمقاليد السلطة عن طريق 'الامتياز الجيني' يجعلها تسعى حثيثاً لاستثمار أي حدث - سياسي, اقتصادي..الخ - لصالحها, فهي تستثمر مثلا حدوث الكوارث الطبيعية لصالح إعادة بناء اقتصادها بنفس القدر الذي تستثمر فيه الاضطرابات السياسية لتطرح نفسها من جديد كبديل للفوضى 'المُتوقعة' التي ستترتب على غيابها كسلطة تحفظ النظام!
وبنفس هذه الطريقة استقبلت الأنظمة الخليجية - بأجهزتها الإعلامية وكتابها وحلفاؤها التقليديين من تجار وسياسيين - مشاهد العنف والقتل والإبادة التي تعرضها الشاشات المتلفزة وغيرها وعملت على توظيفها لصالحها بشكل يجعل منها البديل الحتمي لحياة اللاعنف والغريزة الآمنة! فتلك المشاهد التي وصلتنا لبيوتنا - بشكل مدروس أو عفوي - عبر وسائل التواصل الالكتروني هي استثمار حقيقي لمواجهة مطالب الإصلاح من جهة ولتذكير الناس من جهة أخرى بحياة الدعة والسكينة وذلك من خلال بناء منظومة من الخوف والرعب الذي بدأت تستحثه السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر في لاوعي وأذهان الناس ليظل هو بحد ذاته رادعا لمجرد التفكير في مطالب التغيير والإصلاح, كيف؟
بسبب ما يحدث في دول الربيع العربي من اراقة للدماء وقتل وعنف بدأ الناس في الخليج العربي يتخوفون من حدوث مثل هذه الثورات او مجرد الحديث عنها في بلدانهم لأنها تستحضر في اذهانهم وبشكل لا إرادي تلك الصور البشعة التي يقوم بها الطغاة ضد شعوبهم الثائرة،
ومن الناحية الأخرى ولتذكير الناس بحياة الدعة - وهي حياة الغريزة والمهانة - أخذت السلطة تروج لخطاب في ظاهرة خوف على الشعب وفي حقيقته هو خطاب مسيئ لشعوبها, ونعني به 'خطاب الأنعام!' وهو خطاب أدنى وأحط شأنا لكرامة الناس من ذلك الخطاب الرعوي التقليدي الذي يحيل الشعب لمجرد 'رعية'، أما خطاب الأنعام الذي توجهه وسائل الإعلام للشعوب والذي يقول: ( انظروا لدول الربيع العربي وما جلبته تلك الثورات من قتل وتشريد واحمدوا 'ربكم!' على هذه النعمة والأمن الذي أنتم فيه الآن, فها أنتم تأكلون وتشربون بأمن وأمان!). لا جدال في ان من يحمل مثل هذا الخطاب ينظر للشعب نظره بهيميه بحته وكأن الشعوب خُلقت لتأكل وتشرب وتتناسل على غرار الحياة الغريزية والتي جسدتها قصة حي بن يقظان!
كما ان من يروج لمثل هذا الخطاب أو 'نظرية الأنعام' التي تصوّر الشعوب بالبهائم كما في قوله تعالى 'تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ' (الفرقان: 44 ) يحاول جاهداً خلق ثقافة جديدة وهجينة ومناهضة لثقافة الربيع العربي التي يحركها العقل الجمعي للشعوب, وهذه الثقافة الهجينة هدفها بدون شك خلق شعوب هي أشبه 'بالدواب'. لكن في المقابل من يروّج لمثل هذه الثقافة يدرك جيداً ان العصب الحقيقي لاقتصاد منطقة وشعوب الخليج العربي والذي يؤمن لها 'حياة الغريزة' من مأكل ومشرب هو النفط ولاشي غير النفط, وهذه الثروة النفطية معرضة للنضوب والزوال, لذلك فالسؤال البسيط الذي يطرح نفسه هنا: ماذا تفعل هذه الشعوب عند نضوب ونفاذ النفط الذي وصل معدل استخراجه الى المخزون الاحتياطي، فما العمل اذن وفق نظرية الأنعام تلك؟!
قد يقول قائل وبحسن نية ' علينا أن نعيش الآن والمستقبل له أجياله' وهذا القول هو في حقيقته تأكيد لقيمة سيئة ومشوهة كرستها تلك الثقافة الهجينة ,اعني بها النزعة الأنانية المرادفة لحياة الغريزة, وهو ما يتضح في مقولة 'حنا بخير' التي تلوكها الألسن بطريقة لاواعية وساذجة, فمن يروج لنظرية الانعام ويردد اننا بخير ونعمه سواء أكان من الرؤساء أو البسطاء , لا يفكر - في حقيقة الأمر - إلا بنفسه وببقائه حيا يأكل ويشرب؟ وسواء ادرك أو لم يدرك ذلك فهذه النزعة الأنانية التي تغذيها غريزة البقاء تدفعه لنسيان مستقبل ابناؤه والاجيال القادمة فيكون كل همه وديدنه ان يعيش 'هو' مستفيداً من موارد الثروة النفطية ورغد العيش ولا يهمه ما إذا نضبت هذه الثروة وأتى أبناؤه أو احفاده لقريه خاويه على عروشها لا ماء ولا كهرباء ولا حساب في 'تويتر' فيضطرون للتقاتل من اجل البقاء فتذهب نعمة الأمن - نتيجة لذهاب الثروة- هباءً منثورا!
ناهيك عن ان هذه الثروة النفطية التي قاربت فعلا على النضوب لم تستفد منها الاجيال – الحاضرة طالما أنها لم تكُن يوما من الأيام بيد الشعوب, فهي تستنزف بشكل عبثي منذ اكتشاف أول بئر نفطي، وها هي دول الخليج العربي تمنح غيرها بالمليارات ضاربه حق الشعوب في امتلاك ثروتها عرض الحائط! وبناء على ذلك لن تستطيع هذه الشعوب تأمين مستقبل أبناءها بالمشاريع التنموية أو ايجاد مصادر للطاقة البديلة, كما أن الحقيقة الأخطر تقول بأن معظم أثرياء الخليج العربي- ان لم يكن كلهم- يمتلكون القصور الفارهة في أوروبا وأرصدتهم المتورمة تغص بها المصارف الاوروبية والامريكية، والنتيجة الطبيعية لذلك وعند نضوب النفط 'وزوال هذه النعم' هو الهروب بطبيعة الحال! وترك شعوب المنطقة تصارع الفقر ونيران الحروب التي ستنتج بسبب هذا الفقر، فأين نظرية الانعام من هذا؟
لندخل في الرهان ونقول بأن المهم - كما نعتقد - هو محاربة وتصحيح تلك الفكرة الخاطئة التي تروجها السلطات الوظيفية والتي تقول بأن الثورات تستدعي بالضرورة وبشكل حتمي فكرة العنف وأعمال القتل وإراقة الدماء، والحقيقة أن التاريخ السياسي البشري عرف العديد والعديد من الثورات السلمية التي لم تقطر بها نقطة دم واحده. فالثورات ليست بالضرورة ثورات قتل وعنف وحرب الكل ضد الكل كما يقول توماس هوبز.
ففي جورجيا مثلاً أسقطت 'ثورة الزهور' الرئيس الجورجي شيفردنادزه وأوصلت محلة زعيم المعارضة الجورجية, وكانت ثورتها سلميه بامتياز ولم تتجه للعنف. وكذلك الثورة المخملية أو الثورة الناعمة في تشيكوسلوفاكيا في عام 1989 والتي قضت على النظام الشيوعي دون رجعة وقادها الطلبة والمتظاهرين ضد الحزب الحاكم الشمولي وكانت أيضا ثورة سلمية مصاحبة لأعمال شغب لم تسفر عن قتلى. وأيضا في عام 2005 انطلقت ثورة الليمون في قرغيزيا والتي تسمى أيضا بثورة الوقود لخلع الرئيس القرغيزي ووضع الثوار محلة زعيم ائتلاف المعارضة كرمان بيك بكاييف الذي أعيد انتخابه مره أخرى لسدة الحكم, وكانت هذه الثورة سلمية أيضا.
ختاماً وبكلمة واحدة نقول بأن السلطة التي تستثمر مشاهد القتل وتستعيد مخزون الخوف الى أقصى حدوده الممكنة لكي تعيق حركات الإصلاح والتحرر هي سلطة تعجل بزوالها وتهدم نفسها بنفسها, فلم يعرف التاريخ إطلاقاً بلدا ظل على حالة الفساد والطغيان فيه الى الأبد, لذلك فدفع الناس للانزواء والنكوص بسبب الخوف سيولد بدون شك حالة احتقان يتراكم رويداً رويداً حتى يصل لدرجة الانفجار التي ستكون قسوتها على 'أنظمة الفساد والاستبداد' أسوأ من قسوة الطاغية على شعبة!
د.أحمد عقله العنزي
تعليقات