أوروبا المعاصرة تمر بمرحلة دقيقة.. هذا ما يراه خليل حيدر

زاوية الكتاب

كتب 1276 مشاهدات 0


الوطن

أفكار وأضواء  /  الاتحاد الأوروبي.. في اللحظة الحرجة

خليل علي حيدر

 

تمر أوروبا المعاصرة بمرحلة دقيقة منذ ان اتحدت سياسياً ثم وحدت عملتها.. لم يقم الاتحاد على عقيدة ايديولوجية مفروضة من الكيانات الأكبر حجما كما كان الاتحاد السوفيتي.. ستنقذ المانيا اليورو، ولكنها لن تستطيع الحفاظ على الاتحاد الاوروبي!

هكذا لخصت صحيفة «واشنطن بوست» الامريكية قبل عام، مصير المشروع الاوروبي الضخم، في ظل ازمة الديون اليونانية المستفحلة «ان الوقت تأخر كثيرا من اجل انقاذ الاتحاد الاوروبي، وقد افضت سياسة المانيا الداعية الى شد الاحزمة بغية خفض الديون الى ردود فعل سلبية على المستوى الشعبي ضد الاتحاد الاوروبي وربما تسببت في انهياره. ويمكنا القول ان انقاذ اليورو هو الجزء الاكثر سهولة، اما استعادة الثقة بالتكامل فستثبت انها اكثر حسما واكثر مراوغة». (الجريدة، 2013/6/23) هل تفكك اوروبا وشيك حقا؟ وهل زوال الاتحاد الاوروبي تأكيد او حتى مقدمة لـ«سقوط الحضارة الغربية»، كما كان انهيار الاتحاد السوفيتي بالنسبة للنظام الاشتراكي مثلا؟ كلا بالطبع، يقول المتفائلون. ففكرة اوروبا الموحدة، يقول استاذ من جامعة كامبريدج د. جون لوغلين، تعود الى قرون خلت. وقد اشار اليها فلاسفة مثل ايمانويل كانت وجيرمي بنتام، وكتب الروائي الفرنسي المعروف فكتور هوغو في القرن التاسع عشر متنبئا بيوم نرى فيه الولايات المتحدة الامريكية والولايات المتحدة الاوروبية، «تمتد ايديهم» عبر البحار لجني الرفاه للجميع. يوم لن يكون في ساحات معارك بل اسواقا مفتوحة امام التجارة، والانفتاح على الافكار بدلا من اصوات الرصاص والقنابل».
لم يقم الاتحاد الاوروبي، بعكس الاتحاد السوفيتي، على عقيدة ايديولوجية مفروضة من الكيانات الاكبر حجما. وقد جاء السياسي الفرنسي «روبرت شومان»، الذي يعتبر واحدا من مؤسسي الاتحاد الاوروبي، بفكرة انشاء مجمع اوروبي لصناعة الفحم والصلب. وهكذا تم ربط خامات الحرب.. بصنع السلام!
وما المجمع الاوروبي لصناعة الفحم والصلب؟ كان هذا المجمع اول نموذج للوحدة، يضيف د. لوغلين. ويتكون من ست دول هي فرنسا والمانيا الغربية وايطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ، وتطور لاحقا الى المجموعة الاقتصادية الاوروبية، التي بموجبها قررت الدول الاعضاء انشاء سوق مشتركة، وعملوا على تنسيق سياساتهم في كل شيء، من الزراعة ومصايد الاسماك الى السياسة النقدية. وعلى مدى العقود اللاحقة، اصبحت المجموعة الاقتصادية الاوروبية هي الاتحاد الاوروبي، وتوسع الاتحاد من الدول الست الاعضاء الى 27 دولة الموجودة اليوم، فنلندة شمالا الى مالطا في الجنوب. ومع ذلك، فقد وضعت ازمة اليورو الوحدة الاوروبية في مواجهة اكبر تحد لها حتى الآن. ويتساءل البروفيسور لوغلين: هل يمكن للوحدة الاوروبية تجاوز الازمة الحالية؟ ويجيب: «لقد تم تشكل الاتحاد الاوروبي لاسباب ثلاثة: لمنع الحرب، وتحقيق الوحدة السياسية، والتكامل الاقتصادي، واذا انهار اليورو، فان هذه الابعاد الثلاثة سوف تكون معرضة للخطر.. اظن ان هذا لن يحدث.. الاتحاد الاوروبي سوف يعبر هذه المرحلة في النهاية». (الجريدة، 2011/1/11).
هل يستطيع اليونانيون، كشعب اوروبي، تحمل ما هم فيه من عذاب، والتمسك برابطة الاتحاد؟ هل طبقتها المتوسطة على ما يرام؟
«عبدالستار بركات»، يكتب من العاصمة اليونانية اثينا، في فبراير الماضي، ان وقوف مواطنين يونانيين كانوا الى حد قريب محسوبين على الطبقة المتوسطة الميسورة، في طوابير انتظار للحصول على وجبة طعام من البلدية او المؤسسات الخيرية، أصبح امرا مألوفا في البلاد، وبات ثلث السكان تحت خط الفقر.
رصدنا امرأة في العقد الرابع من عمرها تمسك بطنجرة فارغة وتخبئها في كيس بلاستيكي اسود على الرغم من ظهور ملامح الاناقة عليها. وقد بقيت منتظرة حتى دورها واستلمت الطعام. ووافقت بعد تردد على ان تسرد قصتها. قالت صوفيا، وهي مدرسة، 37 سنة، انها وزوجها وابنها وابنتها كانوا يعيشون حياة ميسورة، اذ كانت هي وزوجها يتقاضيان راتبين شهرياً، كما كانا يعيشان مع والد زوجها قبل وفاته منذ عام واحد، والذي كان يتقاضى هو الاخر معاشاً شهرياً لا بأس به. وتضيف انه مع ظهور الازمة الاقتصادية فقدت هي عملها، وتم تسريحها من المدرسة التي كانت تعمل فيها، وبعد ذلك اغلقت الشركة التي كان يعمل فيها زوجها، وباتوا جميعاً يعتمدون على معاش والد الزوج، الى ان توفي وتوقف معاشه وهكذا، كما تقول، «لم يعد لدينا اي مال لشراء الطعام او الملابس او سداد فواتير الكهرباء والماء». وتضيف بعيون دامعة «صرنا في كثير من الاوقات نعيش على ضوء الشموع.. انا في وضع محرج امام ابنائي، لانني وزوجي فشلنا في توفير الحياة الكريمة لهما».
وقالت انها تأتي الى هذا المركز، وتاخذ الطعام وتضعه في هذا الوعاء الذي معها وتذهب سريعاً الى المنزل، «قبل ان يأتي ابني وابنتي من المدرسة، وأمثل اني قمت بطهي الطعام لهما، حتى لا يشعرا اني اذهب لجلب الطعام لهما من البلدية او الكنيسة او من اي مؤسسة خيرية.. اترقب الاعلان عن مواعيد واماكن توزيع الطعام واذهب ولا اتردد ولا اخجل، وفي كثير من الاحيان لا يعطونني الا وجبة واحدة».
ثم تتساءل صوفيا ذات الشعر الاصفر الطويل، والتي يبدو انها كانت تعيش حياة الترف، يقول بركات، «لا اعرف من السبب في الحال الذي وصلنا اليه، نحن ام الدولة.. السبب يعود لفساد المسؤولين في الدولة والحكومات المتعاقبة وسياساتها غير الحكيمة». (الشرق الاوسط، 2013/2/3).
بعض الاسبان، شركاء اليونان في الازمة الاقتصادية، اكثر خوفاً على مصير اوروبا خلال السنوات القادمة. «خافيير سولانا» مثلا، كان وزيراً لخارجية اسبانيا، والامين العام لمنظمة حلف شمال الاطلسي، يحلل مستقبل اوروبا بين الكتل الدولية الاخرى ويقول: «اليوم، هناك ثلاث دول اوروبية من بين اضخم سبعة اقتصادات على مستوى العالم. وبعد عشرة اعوام من الآن، سيقل هذا العدد الى اثنتين فقط، وبحلول عام 2030، لن تظل على القائمة سوى المانيا، ثم بحلول عام 2050، لن تظل على القائمة اي دولة اوروبية، بل وبحلول ذلك الوقت، ستكون الولايات المتحدة الممثل الوحيد للغرب بين الدول السبع الكبار. وما لم يعمل الاوروبيون من اجل تحقيق هدف التكامل، فانهم قد يجدون انفسهم وقد تجاوزتهم الدول الناشئة من حيث التطور التكنولوجي وخلق فرص العمل، وتكاليف الانتاج والموهبة والابداع».
احدى المخارج لدعم اوروبا اقتصادياً، في رأي «سولانا»، انشاء سوق اكبر كثيراً واعمق وحدة: «في عام 2012، بلغ مجموع صادرات الولايات المتحدة الى الاتحاد الاوروبي نحو 206 مليارات يورو (272 مليار دولار)، في حين بلغت صادرات الاتحاد الاوروبي الى الولايات المتحدة نحو 300 مليار يورو. وتعتمد 30 مليون وظيفة في اوروبا، اي نحو %10 من اجمالي قوة العمل، على التجارة الخارجية». (الجريدة، 2013/3/1) ولكن هل تستطيع اوروبا خلال العقود القادمة ان تحافظ على ميزاتها الاقتصادية، وهل ثقة الاجيال الجديدة من ابنائها لا تزال كما كانت في العقود السابقة؟
الصحف باتت تتكلم، ربما بشيء من المبالغة، عن «موسم الهجرة من أوروبا». إحدى هذه الصحف تشير إلى ارتفاع منسوب الرغبة لدى شباب أوروبا في الهجرة بحثاً عن عمل في دول بعيدة، بعد أن كان العرب والأفارقة والآسيويون قد فازوا ببراءة اختراع الهروب من بلدانهم لأسباب اقتصادية واجتماعية. «وعلى سبيل المثال تقدم في دبلن 8 آلاف عاطل من العمل في منتدى العمل في الخارج، بطلبات إلى كندا واستراليا ونيوزيلندا وآسيا». ويبدو أن الكثيرين في أوروبا الجنوبية يحسدون البرتغاليين على فرص العمل والتسهيلات التي تنتظرهم في دولة تتحدث لغتهم وتمثل حضارتهم.. كالبرازيل!.
من هؤلاء «تياجو لامبوكا» المهندس المعماري البرتغالي، (29 عاماً)، الذي هاجر إلى ساو باولو في البرازيل، ويقول: «جئت في زيارة مدة أسبوعين، ووجدت وظيفة بعد يومين فقط، وقدمت على دراسة الماجستير في إدارة الأعمال»، أعداد كبيرة من البرتغاليين المهرة يريدون الهجرة إلى البرازيل، الدولة التي تتمتع بثروات سلعية ضخمة وقفزة هائلة في مجال الطاقة، علاوة على احتضانها أحداثاً مهمة خلال الفترة القادمة مثل كأس العالم لكرة القدم عام 2014 ودورة الألعاب الأولمبية عام 2016، وهو ما يجعل البرازيل في حاجة ماسة إلى المهندسين والمعماريين والمستشارين والعمالة الماهرة الأخرى»، وقالت «خوانا أوليفيرا»، وهي مهندسة معمارية أيضاً، إنها تعمل في البرازيل منذ عامين، حيث تمت إعادة هيكلة المكتب وصار أكثر اعتماداً على الشباب والابتكار، «وهو ما منحها فرصة ثمينة لم تكن لتحصيل عليها في شركة أوروبية وهي في هذه السن». وتعتقد أوليفيرا في توقعاتها عن تأثير الأزمة الاقتصادية في أوروبا، إن أي شخص لديه طموح في أوروبا، «يتعين عليه أن يغير طريقة تفكيره ويرحل إلى مكان آخر». وتقول برتغالية تعمل في مجال الإخراج التلفزيوني في البرازيل: «لا أنوي العودة إلى بلادي، فقد عشقت هذا المكان، الشاطئ والشمس والناس الطيبين، ولا تمثل اللغة أي مشكلة بالنسبة لي، علاوة على وجود الكثير من الفرص هنا». [الشرق الأوسط، 2013/1/15].
ما المخرج المناسب للأوروبيين من أزمتهم الحالية، لمنع المزيد من التدهور؟
المؤسس والرئيس التنفيذي لمنتدى «الاقتصادي العالمي»، كلاوس شواب يحذر في مقال له، «إن كان على أوروبا أن تخشى شيئاً فلتخش نفسها»! هناك حقيقة يجب على القادة الأوروبيين جميعاً إدراكها، يقول، إذ «لا مجال للتراجع الآن، فقد تم رفع جسر العودة من خلفهم، وعليهم اليوم أن يصبّوا تركيزهم وجهودهم على التأهب للمرحلة المقبلة.. لقد تمكنت العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) من تحقيق مكاسب اقتصادية عظيمة خلال الفترة الماضية، فقد نجحت في تخفيف أخطار تحويل العملة، وخفض التضخم، وأسهمت في زيادة التعاملات التجارية، وإحكام ربط الأسواق المالية الأوروبية بعضها ببعض، وبصورة شمولية، فقد ساهم وجود العملة الواحدة بتأسيس ثقافة نقدية ثابتة ومتينة في منطقة اليورو، وهي نقطة على درجة عالية من الأهمية يتم عادة إغفالها في النقاشات الدائرة هذه الأيام.. إن أوروبا ككيان إما أن تنجح كوحدة واحدة أو أن تتشت معاً إلى اجزاء متفرقة» الشرق الأوسط [2012/12/15].
تمر أوروبا المعاصرة إذن بمرحلة دقيقة منذ أن اتحدت سياسياً، ثم وحدت عملتها، وضعت خلف ظهرها تاريخاً معقداً مشحوناً بالخلافات الموروثة والحروب المدمرة. ومن المرجح أنها ستعبر هذا الممر الضيق الملتوي كما عبرت غيره.
ولكن ما تأثير هذا كله على العالم العربي.. وربيعه؟

الوطن

تعليقات

اكتب تعليقك