مخاطر استمرار الاحتقان السياسي على الاقتصاد المصري يكتب محمد السقا

الاقتصاد الآن

924 مشاهدات 0

من محركات البحث

التغير الاقتصادي في مصر يسير بخطوات بطيئة جدًّا في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي التي تسود مصر. منذ بدأت الثورة، وأوضاع الاقتصاد المصري تتدهور يومًا بعد يوم، فمعدلات البطالة في ارتفاع مستمر، بلغت حسب التقديرات الرسمية 13 في المائة، بينما يعيش، وفقًا للتقديرات الرسمية أيضًا، ربع السكان تحت خط الفقر، وإن كنت أرى أن هذه التقديرات متواضعة جدًّا، بينما تراجعت الاحتياطيات من النقد الأجنبي على نحو خطير إلى نحو 13 مليار دولار، قبل أن تعلن قطر شراء سندات مصرية بالنقد الأجنبي، في الوقت الذي يواصل فيه الجنيه المصري تراجعه أمام العملات الأجنبية.

لقد كان من المفترض أن تشهد مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية حدوث إصلاحات اقتصادية هيكلية يهيأ بها الاقتصاد المصري نحو الانطلاق متناسيًا هموم الماضي ومتطلعًا إلى مستقبل أكثر عدالة وكفاءة وإنتاجية. مع الأسف الشديد لم تشهد مرحلة ما بعد الثورة حتى الآن أي رؤية واضحة للاقتصاد المصري، ولا برنامج عمل لتوسيع قاعدته الإنتاجية أو فتح المجال أمام المبادرات الخاصة لزيادة مستويات الاستثمار ورفع مستويات الناتج والدخول والتوظيف.

كان من المفترض بعد الثورة أن تضع مصر خطة طموحة لجذب الاستثمارات الخارجية، بعد أن أصبح من الواضح أن رفع مستويات الاستثمار من خلال رجال الأعمال المصريين أمر غير ممكن؛ نظرًا لاتساع حاجة مصر إلى استثمارات تفوق القدرة الادخارية لقطاع الأعمال المحلي، غير أنه بدلًا من أن يتم تشجيع المستثمرين الأجانب، شهدت تلك الفترة تضييقًا على المستثمرين، خصوصًا العرب منهم، ولم تسعَ الدولة إلى حل مشكلاتهم والتوصل بسرعة إلى صيغ توافقية ترضي الجميع، وإرسال رسائل اطمئنان إلى المستثمرين الجدد سواء من العرب أو غير العرب بأن الاستثمار الأجنبي في مصر مصون، ويعمل في حرية تامة طالما أنه يسهم في رفع معدلات النمو وزيادة مستويات الناتج.

مصر اليوم في حاجة إلى أن تسوق نفسها استثماريًّا أكثر من أي وقت مضى، من خلال رسم خرائط واضحة للاستثمار، ومجالاته، والأماكن المقترحة له، والتكلفة الاستثمارية المتوقعة له، والتسهيلات التي ستقدمها له، وذلك لجذب رؤوس الأموال نحو القطاعات التي تهدف مصر إلى تنميتها، وإرسال رسائل الاطمئنان المناسبة للمستثمرين لتحسين مناخ الاستثمار في مصر، ولعل أهم رسائل الاطمئنان هي توافر الاستقرار الأمني والسياسي، ومنذ ثورة يناير كان عدم الاستقرار السياسي والأمني سيد المشهد على الساحة المصرية، لذلك تأثرت تدفقات السياحة إلى مصر، وتراجعت إيراداتها إلى مستويات لم تشهدها من قبل.

لقد تطلع المصريون إلى وضع اقتصادي جديد بعد الثورة تتحقق فيه مطالب العدالة الاجتماعية التي تدهورت على نحو خطير في العهد السابق، واختفت تقريبًا الطبقة المتوسطة في المجتمع المصري، وتحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب إجراءات إما مباشرة لإعادة توزيع الثروة، وهذه مجال تحقيقها محدود حاليًّا؛ لأنها ستتطلب اتخاذ إجراءات استثنائية غير مقبولة بمصادرة الثروات، وتأميم الممتلكات، وإعادة توزيعها لمصلحة الطبقات الفقيرة، مثلما فعل عبد الناصر عندما أصدر قانون الإصلاح الزراعي، فمثل هذه الإجراءات في ظل الأوضاع الحالية في مصر غير ممكنة على أرض الواقع.

السبيل الثاني هو رفع مستويات الدخل للطبقات الفقيرة، وفتح المزيد من الفرص أمامها لتحسين مستويات دخولها، وهذا يتطلب شرطين: الأول، وهو الأهم، دفع عجلة الإنتاج وتحقيق معدلات مرتفعة للنمو يتم توجيه معظم ثمارها نحو محدودي الدخل من الشعب المصري. والآخر ألا يكون تحسين مستويات الدخول من خلال مصادر غير تضخمية حتى لا تكون الزيادة في الدخول مجرد زيادة اسمية. ما حدث بالفعل هو اللجوء إلى تحسين مستويات الدخول من خلال التمويل بالدين؛ نظرًا لأن عجلة الإنتاج شبه متوقفة، والنمو ضعيف للغاية، فكانت النتيجة قفز عجز الموازنة إلى مستويات لم تشهدها مصر من قبل، ونتيجة لذلك ارتفع الدين المحلي إلى مستويات خطيرة، أصبحت في ظل الأوضاع الحالية غير مستدامة على المدى الطويل، بينما ترتب على النمو الاسمي في الدخول ضغوط طلب تضخمية كبيرة تراجعت معها القوة الشرائية الحقيقية لدخول الجميع.

ليست هذه هي الطريقة الصحيحة لرفع مستويات الدخول، فالزيادة في الدخول لا بد أن تكون في الأساس زيادة حقيقية ناتجة عن نمو حقيقي وليس نموًّا في الدين العام، حتى يمكن استيعاب الآثار التضخمية لهذه الزيادات التي تحدث في الدخول. غير أن صانع السياسة لم يكن لديه - مع الأسف - خيار آخر، فالوضع الاقتصادي لمصر في منتهى السوء حاليًّا، لذلك فإن الجهود الحالية التي تبذلها الدولة لإحداث نوع من العدالة الاجتماعية ورفع مستويات الدخول، تؤدي إلى نتيجة واحدة هي رفع مستوى العجز في الميزانية والدين العام.

إن استمرار حالة الاحتقان في الشارع السياسي يخنق مصادر النقد الأجنبي، ففي ظل جهاز الإنتاج القاصر عن سداد احتياجات الطلب المحلي من السلع والخدمات، فإن الواردات تستمر في التزايد مع كل تراجع يحدث في الإنتاج المحلي، وتتزايد الضغوط على النقد الأجنبي لمواجهة احتياجات الاستيراد، أكثر من ذلك فإن استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي تؤثر سلبًا في تدفقات تحويلات المصريين العاملين في الخارج، خصوصًا الذين يقيمون خارج مصر بصفة دائمة، التي تعد حاليًّا أهم مصادر النقد الأجنبي بعد تراجع أهمية العوائد السياحية.

مصر اليوم تقف في مفترق الطرق بعد عزل الرئيس مرسي والإعلان عن خريطة طريق أخرى، التي بمقتضاها سيدخل الاقتصاد المصري في فترة انتقالية جديدة، بعد فشل الفترة الانتقالية الأولى، ومصدر القلق الأساسي أن أولويات الاقتصاد ستنحى جانبًا حتى تتم تسوية الأوضاع السياسية.

هناك سيناريوهان متوقعان في هذا الصدد، الأول أن تميل أوضاع مصر السياسية نحو الاستقرار وتتمكن من إقناع الأصدقاء والمؤسسات الدولية بتوفير المساعدات والدعم اللازم الذي يحتاج إليه الاقتصاد المصري في المرحلة الحالية، وسرعة الإفراج عن القروض التي يتفاوض عليها، ويتم ضخ الكميات التي يحتاج إليها من النقد الأجنبي بحيث تنخفض الضغوط على الجنيه ويعود إلى مستوياته السابقة قبل الانخفاض الكبير الذي تعرض له خلال العام الماضي، وهناك بشائر في هذا الاتجاه بعد أن أعلنت السعودية والإمارات، تقديم حزمة مساعدات قيمتها ثمانية مليارات دولار.

السيناريو الآخر أن تستمر الأوضاع السياسية في الاحتقان، وتتعقد أوضاع الاقتصاد المصري، لا قدر الله، على نحو أكبر، ويتعرض الجنيه للانهيار، وتتعاظم معه مخاطر أن تتحول مصر إلى دولة فاشلة، ينهار فيها النظام الإنتاجي وتفقد السيطرة على اقتصادها. لتلافي هذا السيناريو يحتاج الجميع إلى أن يتناسوا خلافاتهم السياسية للعمل نحو هدف واحد هو حماية الاقتصاد المصري من الفشل.

الآن - الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك