حقيقة 'دستور النخبة' برأي أحمد عقلة العنزي

زاوية الكتاب

لم يكن عقدا بين الحاكم مع المحكوم بل مع التجار فقط

كتب 7721 مشاهدات 0

الكاتب

خص الدكتور أحمد عقلة العنزي بمقال عن دستور 1962، حيث اعتبره هو في حقيقته عقداً بين الأسرة الحاكمة والتجار فقط ولم يكن للشعب بمعناه الواسع والحي - أي بكل فئاته ومشاربه- أي دور 'مباشر' فيه، وفي ما يلي نص المقال والتعليق لكم:

دستور النخبة!

بحسب الفيلسوف دريدا لا يوجد نصاً محايداً فكل كتابة 'مؤدلجة' رغما عنها, وعلى الرغم من ذلك سنحاول في هذا المقال ألا نكون كذلك بقدر الإمكان! فهذا المقال يعالج فرضية لها وجاهتها التاريخية ومبرراتها العلمية ومسوغاتها النقدية. تقول هذه الفرضية ان الظروف التاريخية والواقع الموضوعي الاجتماعي- الاقتصادي للكويت لحقبة ما قبل ظهور دستور 62 , تؤكد بأن دستور 62 لم يكن - كما تروج السلطة ومؤسساتها - عقداً أو ميثاقاً بين الحاكم والمحكوم كما هو الحال في دساتير وشرائع الدول الديمقراطية, بل هو في حقيقته عقداً بين الأسرة الحاكمة والتجار فقط ولم يكن للشعب بمعناه الواسع والحي - أي بكل فئاته ومشاربه- أي دور 'مباشر' فيه, بل سأذهب لأبعد من ذلك وأقول بأنه حتى مفهوم السلطة - أي الإرادة السياسية- وفقاً لهذه الفرضية لا تعني حصراً سلطة الأسرة الحاكمة, فالسلطة أو الإرادة السياسية هي لمن انتصر أو كانت له الشوكة والغلبة في تلك المعادلة وغالبا ما تكون الغلبة للقوى الاقتصادية, فتاريخنا السياسي ذاته - والذي نتداوله في مؤسساتنا الأكاديمية- يقدم شواهد كثيره ويؤكد لنا بأنه لم يأتي حاكماً أو أميراً الكويت - خصوصا بعد عهد مبارك الكبير- دون رضا الانجليز أولا وموافقة ودعم القوى الاقتصادية ثانياً, وبناء عليه أو كنتيجة لذلك من الصعب لأي حاكم أن يتخذ قرارات مصيرية - وخصوصا الاقتصادية- دون رضا وموافقة القوى الاقتصادية. وبمعنى آخر نقول بأن العلاقة بين الاسرة الحاكمة والقوى الاقتصادية هي علاقة ديالكتيكية تجسد علاقة اعتماد متبادل بينهما كما هو الحال في العلاقة الجدلية بين السيد والعبد - بتعبير الفيلسوف هيغل- فالسيد الذي يعتمد اعتمادا كليا على العبد في مشربه ومأكلة وملبسه هو في حقيقته عبداً للعبد وليس سيداً له.

  إذن من السذاجة بمكان عزل هذا الحدث الدستوري - أعني ظهور دستور ٦٢ وهو المرجعية القانونية والدستورية لنظامنا السياسي - عن سياقه التاريخي والظروف الموضوعية الاقتصادية- الاجتماعية التي ساعدت على ظهوره بهذا الشكل الأجوف. أليس من المخجل أن هذا 'الدستور النخبوي' الذي قيَد حياتنا السياسية وطبعها بالجمود على مدى خمسون عاماً قد تمت صياغة في غضون 72 ساعه فقط وهي مجموع ساعات اجتماعات لجنة اعداد الدستور؟!   لتوضيح هذه الفرضية سنرتهن لمحاجة جدلية وجوهرية تقول بان الكويت منذ منتصف الثلاثينيات وحتى أواخر الخمسينيات - أي قبل ظهور دستور 62- كانت مسرحاً لصراع مرير بين الاسرة الحاكمة من جهة والقوى الاقتصادية من جهة أخرى حول مركزين أو مصدرين من مصادر القوة والسيطرة أولهما الثروة النفطية وثانيهما السلطة أو الإرادة السياسية ذاتها. لن اعود لمجالس الثلاثينيات النخبوية التي انتهت بنهاية دموية دراماتيكية بسبب محاولة الانقلاب المسلح ضد احمد الجابر حيث كان للبدو وتحديداً الرشايده دوراً بارزاً في تثبيت حكم الصباح آنذاك وإحباط تلك المحاولة الانقلابية التي أدت لفرار العديد من التجار وانصارهم للعراق, فهذا موضوع طويل لن ندخل في تفاصيله. ولإثبات فرضيتنا الرئيسية - القائلة بأن دستور 62 ليس إلا عقدا أو اتفاقاً بين الأسرة الحاكمة والقوى الاقتصادية فقط - سنضطر للوقوف بشيء من التفصيل على محطات مهمة وحساسة في تاريخنا السياسي وتحديداً تلك الحقبة التي سبقت ظهور الدستور مباشرة, محاولين بذلك إلقاء الضوء على تلك المناطق المعتمة والرمادية من فكرنا وثقافتنا السياسية والتي يتم إخفاؤها أو طمسها عمدا في تاريخنا الرسمي الذي تكرسه السلطة عبر مثقفيها ومؤرخيها وعبر مؤسساتها الرسمية. فما شهدته حقبة ما قبل ظهور دستور 62 تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن هذا الدستور ما هو إلا انعكاسا لأصداء 'اللاوعي السياسي' الذي تراكم وتشكل من مجموعة من الظروف وتحت إكراه وضغط سلسلة من المطالب المعلنة والغير معلنة والتي تدور كلها في فلك الصراع بين هذين القطبين (أسرة الحكم والقوى الاقتصادية) للاستحواذ والاستئثار بمفاصل ومراكز القوه والسيطرة أي الثروة النفطية والإرادة السياسية. بمعنى آخر نقول, ظل هذا الصراع حول الثروة النفطية والسلطة بمثابة 'المهماز' الذي حفز ودفع 'الوعي السياسي الكويتي' للوصول الى صياغة دستور 62 والذي هو عبارة عن 'صيغة تفاهميه' عقيمه غير منتجه وشكلية جوفاء لا روح فيها سوى أنها جاءت لتتوج وتنهي هذا الصراع المرير وتغلفه في تحالف سياسي استراتيجي!

  لندخل في الرهان ونقول بأنه بعد ضرب اللؤلؤ الطبيعي والكساد الاقتصادي العالمي في مطلع الثلاثينيات عاش تجار الكويت حالة إفلاس شبه تام, فالثروة الآن لم تعد تجارة اللؤلؤ أو تلك الأنشطة البحرية المتواضعة, فالثروة الحقيقية أصبحت النفط, وهذا الذهب الأسود مكدس في باطن الأرض - التي يحكمها سياسيا 'ابن صباح'- وليس على ظهور السفن الشراعية! ووفقاً لقاعدة صراع المتناقضات في الأدبيات الماركسية فمن يستحوذ على السلطة المطلقة سيتحكم بالضرورة بمفاصل الثروة (الاقتصاد) وسبل توزيعها واستثمارها, والعكس - غاليا- صحيح, فمن يمتلك الثروة سيسهل عليه امتلاك السلطة ومركز القرار.

منذ توقيع أول امتياز نفطي بين أحمد الجابر والإنجليز في منتصف الثلاثينيات ومرورا بتعديل بنود الاتفاقيات النفطية في أواخر الأربعينيات, وضعت الكويت يدها - أي الأسرة الحاكمة تحديدا- على ثروة نفطية هائلة بلغت ذروتها في عهد عبدالله السالم الذي وجد نفسه أمام معضلتين شائكتين: الأولى هي معضلة صرف عائدات الموارد النفطية الهائلة على مشاريع الإعمار وإنشاء البنية التحتية للكويت التي كانت حينئذ صحراء جدباء لا إعمار ولا بناء. والمعضلة الثانية هي عندما اشترط عليه الإنجليز - وللقبول به كحاكم جديد لهذه الدولة الواقعة تحت الحماية البريطانية وفقا لأتفاقية 1899- أن يقبل بتعيين مستشارين أجانب (انجليز) لكي يقوموا بهذه المهمة أي مهمة تنفيذ مشاريع الإعمار والبناء, وبالفعل وافق 'الشيخ' على شروط الانجليز الذين اقروا هم بدورهم الاعتراف به كحاكم وتم الاحتفال بذلك في٢٥ فبراير ١٩٥٠م في مناسبة تحولت - ويا للغرابة- لعيد واحتفال وطني سنوي! اقترح المستشارين الانجليز ان تقوم خمس شركات انجليزية-هندية سميت 'بمجموعة الشركات الخمس' ببرامج التخطيط والتنمية فوقعت السلطة مع هذه الشركات اتفاقيات الاعمار والبناء. لم تكن القوى الاقتصادية غائبه عن هذا المشهد بل هي الطرف الثاني والأقوى في معادلة الصراع للاستحواذ على أوجه صرف موارد وعائدات الثروة النفطية لذلك طالبت القوى الاقتصادية أن 'تشارك' الأسرة الحاكمة في ادارة هذه المشاريع الضخمة بحيث تقوم هذه الشركات بأعمالها عن طريق 'وكيل' كويتي أي عن طريق التجار أنفسهم وهذا هو المعنى والهدف الحقيقي لشعارات 'المشاركة الشعبية' في الإدارة والحكم التي رفعتها القوى الاقتصادية لاحقا كما سنبين ذلك في حينه, وعلى الرغم من أن الأسرة الحاكمة عارضت هذه المطالب في بداية الأمر إلا أن أقطاب القوى الاقتصادية نجحوا في نهاية المطاف في الحصول على 'امتيازات' البناء والمحروقات وغيرها حتى أخرجوا هذه الشركات الأجنبية, ولمواجهة جشع القوى الاقتصادية والحد من مطالبها أمر عبدالله السالم بإنشاء مجالس منتخبة 'بصيغة' الأسرة الحاكمة أي تحت الاشراف المباشر لأفراد الأسرة الحاكمة أنفسهم الذين وضعوا بمعرفتهم قوائم الناخبين والمرشحين, وهذه المجالس هي المعارف والبلدية والصحة والاوقاف والاشغال حيث كانت مهمة هذه المجالس الإشراف على عمل المستشارين الأجانب فيما يخص مشاريع الإعمار وصرف أموال العائدات النفطية عليها, لكن قام عبدالله المبارك وفهد السالم الذين ترأسوا هذه المجالس باستبعاد فئة التجار الجشعين الذين طالبوا بأن يقوموا هم أنفسهم بالإشراف على برامج الإعمار ومراقبة المصروفات وكنتيجة طبيعية لهذا الاستبعاد تحول التجار لمعارضة شرسة ضد أسرة الحكم وصلت الى حد الوشاية بفهد السالم الذي توفي فجأة في الشرقية! وعبدالله المبارك الذي تم استبعاده لاحقا, وأمام هذه المعارضة السياسية للقوى الاقتصادية بدأت هذه المجالس تتعثر حتى فشلت في أداء مهامها.

في هذه الأثناء قام التجار بتشكيل 'لجنة الأندية' التي تضم الاندية الرياضية والثقافية والأدبية وهي في حقيقتها الواجهة السياسية للقوى الاقتصادية - كما هو الحال اليوم مع المنبر الديمقراطي والتحالف الوطني اللذان يعتبران امتداداً ثقافيا وايديولوجيا للجنة الأندية- ويجب أن نشير هنا الى أن لجنة الأندية- وكذلك الرابطة الكويتية أو اللجان المنبثقة عنها - التي يقدمها لنا تاريخنا السلطوي على أنها تجسد التاريخ الوطني أو ما يسمى بالعمل الوطني, قامت بدعم وتمويل كامل من القوى الاقتصادية, بل أن الانتساب لهذه اللجنة لم يكن مفتوحا هكذا على مصراعيه لكل من يرغب بالانضمام إليها من أبناء الشعب الكويتي بل كان الانتساب إليها يتم عن طريق تزكية 'أعيانها' ومؤسسيها فكانت باختصار لجنه 'مغلقه' على فئات معينه من التجار أو أنصارهم والمقربين منهم فقط وهو عرف كرسته هذه العقلية والثقافة النخبوية الى اليوم في ثقافتنا الحزبية الكويتية الراهنة والتي اسستها اصلاً القوى الاقتصادية إياها.

نعود ونقول بأنه وفي ظل هذا التجاذب حول 'المكتسبات النفطية' دخلت لجنة الأندية في صراع مرير مع الاسرة الحاكمة بهدف الاستحواذ على هذه الثروة, حيث كان هاجس القوى الاقتصادية وديدنها الوحيد هو الحصول على نصيب من عائدات هذه الثروة النفطية, وهذا ما تكشفه لنا ادبيات هذه اللجنة وبيان تأسيسها أو ما ذكرته الصحف المناصرة لها كصحيفتي الفجر والشعب, حيث كان من أن أهم أهدافها 'دراسة المشكلات الانشائية والاقتصادية التي تواجهها الكويت في حقبة الطفرة النفطية ووضع الحلول المناسبة لها', وبالفعل حاولت لجنة الأندية تقديم هذه الدراسات والاقتراحات المزعومة حول الاعمار وسبل التنمية وطرق توزيع الامتيازات النفطية ومشكلة المياه والكهرباء وانشاء مساكن ذوي الدخل المحدود, وهي ذات المشاريع التي تم حسمها في أولى جلسات المجلس التأسيسي الذي كانت مهمته الرئيسية اعداد دستور62 !!

اذن كان هاجس القوى الاقتصادية ولجنة الأندية 'مزاحمة' الشركات الأجنبية, فبدأت أنشطتها السياسية الميدانية برفع شعارات قومية تارة ووطنية تارات أخرى لمضايقة هذه الشركات, وبناءً عليه استثمرت كل المناسبات السياسية المحلية والإقليمية لتحقيق مآربها المعلنة أحيانا والغير معلنه أحياناً أخرى, فعلى سبيل المثال انتهزت لجنة الأندية مناسبة تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر وشكلت لجنة المقاطعة للعمل على مواجهة الشركات الانجليزية الباغية! التي تدير وتشرف على مشاريع الإعمار! كما رفعت شعار التأميم, والغريب في الأمر أن التأميم وفقا لهذه الثقافة البورجوازية الإستحواذية لم يكن المقصود به نقل الامتيازات من ملكية خاصة أجنبية وإحالتها لملكية عامة شعبية تشرف عليها الدولة كما هو معروف في الأدبيات الاشتراكية وإنما كان يعني نقل الامتيازات النفطية من الشركات الانجليزية الغازية! الي التجار أنفسهم - وليس الدولة- وبشكل متساوٍ فيما بينهم! وذلك عن طريق تأسيس شركه بواخر أهلية وطنية لنقل النفط يملكها ويديرها التجار والأغرب من ذلك انها بأموال وموارد الدولة! وكذلك طالبت لجنة الأندية بإلغاء جميع الاتفاقيات التجارية التي ابرمتها السلطة 'أي الأسرة الحاكمة' مع الشركات البريطانية المحتلة للوطن العربي والتي تحارب مصر العروبة!

وبالتزامن مع ذلك وكشل من أشكال الضغط السياسي وجهت لجنة الأندية لعبدالله السالم العديد من الخطابات والرسائل بخصوص هذه الامتيازات النفطية, حتى وصلت في عام 1954 الى أن رفعت وثيقة وقع عليها التجار وأنصارهم في اجتماع مسجد السوق الشهير في 'سوق التجار' مطالبةً الأمير بضرورة 'المشاركة الشعبية!' في ادارة شؤون البلاد مما استدعى عبدالله السالم, وتحت هذا الضغط, تشكيل اللجنة التنفيذية العليا لتقوم بهذا الدور وكانت من ابناء الأسرة الحاكمة فقط لكنها سرعان ما فشلت, ثم شكل عبدالله السالم بعدها 'المجلس الأعلى' الذي تألف بالمناصفة! - وهو ما سمي أيضا بالمجلس الموحد أو المشترك - بين أبناء الأسرة الحاكمة وأقطاب القوى الاقتصادية حيث قام هذا المجلس بدعوة 'أعيان ووجهاء البلد' أي التجار حصراً للإشراف على انتخابات يديرونها هم بأنفسهم دون تدخل الأسرة الحاكمة بحيث ينضم المنتخبون الى هذا المجلس الأعلى, وهذا ما تم بالفعل حيث عُقدت 'انتخابات مغلقة' بمدرسة المباركية يوم الجمعة 28/3/1958م وفاز بها كل الذين ترشحوا !! وكان عددهم ٥٥ عضواً من بينهم 24 عضواً من عوائل واحده! أما البقيه فيرتبطون ببعضهم بعلاقات مصاهره!! فهم في كل الأحوال يمثلون طبقة واحده ذات صبغه ثقافية واحده تمثل ايديولوجيا القوى الاقتصادية وأنصارهم أو المقربين منهم, إلا أن هؤلاء الأعضاء المنتخبين! اختلفوا مع أعضاء المجلس الأعلى من أبناء الأسرة الحاكمة حول قضايا عديدة أهمها تحديد صلاحياتهم وحقوقهم في المراقبة على المصروفات بل ودخلوا في صدام مباشر مع عبدالله السالم بشأن اتفاقية أم قصر حول مشكلة المياه بين الكويت والعراق حيث كان يأمل التجار الحصول على امتياز تصدير المياه من شط العرب للكويت إلا أن عبدالله السالم رفض هذه الاتفاقية رفضا قاطعا مبرراً ذلك بعدم رغبته بالارتباط مع العراق باي اتفاقيه، وكان ذلك الاستبعاد والتحجيم للقوى الاقتصادية كالقشة التي قصمت ظهر البعير فدفعتهم للاستقالة من المجلس الأعلى.

  أيقنت القوى الاقتصادية بأن الطريق للوصول الى الثروة النفطية - التي بلغت ذروتها في حقبة الخمسينيات- لن يكون ممكنا إلا عن طريق الاقتراب من مركز القرار في السلطة والإرادة السياسية ولن يتمكنوا من ذلك دون المطالبة بوضع دستور يكفل هذه المشاركة في السلطة السياسية وادارة شؤون البلاد من خلال برلمان منتخب حتى لو كان هذا البرلمان شكليا! فالهدف والمهماز الحقيقي للقوى الاقتصادية لم يكن المشاركة في إدارة الشؤون السياسية بحد ذاتها بقدر ما يكون المشاركة في إدارة الشؤون الاقتصادية في توزيع الثروة النفطية ومشاريع الإعمار والتنمية, ومن هنا ولتحقيق هذه الأهداف لجأت لجنة الأندية للشارع الكويتي ومارست التعبئة الشعبية بالنفس القومي المناهض للإنجليز لاسيما أن الانجليز والى تلك الحقبة كانوا قريبين من مركز القرار والسلطة السياسية, ووصلت تلك التعبئة أوجها في أحداث ثانوية الشويخ الشهيرة في فبراير عام 1959م (أي قبل أشهر قليله من انشاء المجلس التأسيسي واعداد دستور 62) حيث ألقى جاسم القطامي خطابة الشهير واستقال من الشرطة, وتجدر الاشارة هنا بأن استقالة القطامي من الشرطة - لاسيما أنه كان مؤسس وعضو فاعل في لجنة الأندية وترأس لاحقاً شركة السينما- أتت في هذا السياق وتحت ضغط هذه الظروف التي تخضع لجدلية الصراع فيما بين الاسرة الحاكمة والقوى الاقتصادية حول الثروة النفطية بدليل استقالة ١٣ ضابطاً وكلهم من المقربين لطبقة التجار تضامناً مع القطامي، لذلك من السذاجة اعتبارها عملا بطوليا وطنيا, خصوصا أن القطامي كوفئ لاحقا بتعيينه مستشاراً في الديوان الأميري ثم وكيلا بوزارة الخارجية.

لم يكن هذا 'الحراك النخبوي' ومضامينه الاقتصادية خافياً على عبدالله السالم, فقد أصدر في أعقاب أحداث ثانوية الشويخ مباشرة بياناً كشف فيه هذه الغايات والمقاصد التي تضمرها لجنة الأندية والقوى الاقتصادية التي تقف خلفها حيث كان ظاهرها الوطنية والقومية وباطنها 'انتقاد اعمال المجلس الأعلى واحتكار الاسرة الحاكمة للثروة وصرف الأموال النفطية على مشاريع الإعمار' وإقصاء أقطاب القوى الاقتصادية من هذه المعادلة والاستئثار بهذه الثروة, لذلك أصدر أوامره الفورية بأغلاق الأندية والجمعيات والصحف.

وعلى الرغم من ذلك فلم تيأس القوى الاقتصادية ولجنتها فقد وجدت ضالتها في 'مناسبة' تهديد عبدالكريم قاسم بضم الكويت في مطلع الستينيات حيث جاءت تلك التهديدات كذريعة جديده وفرصة سانحه لإعادة إحياء القوى الاقتصادية وأنصارها لوثيقتهم المطالبة بالمشاركة في شؤون الحكم ووضع دستور للبلاد وهذا ما اضطر عبدالله السالم بالموافقة فوراً على إنشاء مجلس تأسيسي مهمته 'الرئيسية' إعداد دستور للبلاد والبدء بالحياة البرلمانية.   بالفعل كان المجلس التأسيسي, اجتماعاته والقوانين التي صادق عليها, يعبر تعبيراً صادقا عن ذلك الصراع الدراماتيكي بين الاسرة الحاكمة والقوى الاقتصادية حول المكاسب والثروة النفطية من جهة والارادة أو السلطة السياسية من جهة أخرى, فهذا المجلس الذي أنشيء أساسا لمهمة إعداد الدستور لم يكن هاجسه الأول وضع دستور حقيقي يعبر عن 'الارادة الشعبية' الغائبة, بل كان حلبة التقت من خلالها أقطاب الصراع حول مصادر القوه والسيطرة وجاء دستور 62 لينهي هذا الصراع ويضع حداً له في صيغة توافقية جسدها الدستور ذاته الذي أعطى الأسرة الحاكمة 'امتياز' أو حق السلطة ومنح القوى الاقتصادية 'امتياز' أو حق مراقبة هذه السلطة! بمعنى آخر نقول بأن نظرة فاحصه للإشكال حول أهم القوانين أو البنود التي ناقشها المجلس التأسيسي لكفيلة في تأكيد هذه الفرضية, فقد توقف هذا المجلس عند ثلاث مواد رئيسية تعكس طبيعة ذلك الصراع وهي المادة 4 (الخاصة بتوارث الامارة/السلطة السياسية) والمادة 121 (الخاصة بمزاولة عضو مجلس الأمة للأنشطة التجارية/السلطة الاقتصادية) والمادة 131 (الخاصة بمزاولة الوزير للأنشطة التجارية/السلطتين السياسية والاقتصادية), لقد كان تأجيل المجلس مناقشة هذه المواد أكثر من مرة مؤشراً لا يدع مجالا للشك بضرورة إنهاء ذلك الصراع والوصول بالتالي لصيغة توافقية بين الأسرة الحاكمة والقوى الاقتصادية حول مسائل السلطة والثروة وهو ما يعزز فرضيتنا الرئيسية بأن دستور 62 جاء كميثاق أو توافق بين هذين القطبين وفق مبدأ 'السلطة مقابل الثروة' ولم يكن الشعب بكل فئاته طرفاً فيه, أي لم يكن طرفاً في النزاع حول السلطة والثروة بل ان الشعب تلقف هذا الدستور 'كمنحه' فقط وعليه عدم الكفر بهذه 'النعمة' التي حباه الله بها بأن جعل له دستور يحتكم إليه في كل شؤونه, فأي أسطورة عاشها الشعب الكويتي! بل نستطيع ان ندلل أيضا على ان دستور 62 كان - ومازال- عقدا بين أسرة الحكم والقوى الاقتصادية فقط وذلك في معرفة طبيعة المواضيع والمسائل الملحة التي حسمها المجلس التأسيسي في أولى اجتماعاته مثل مسائل التعيين في النيابة والقضاء وتبعية ديوان المحاسبة وغرفة التجارة وكذلك اقامة مشاريع تجاريه استثماريه في الجزائر وتخطيط المواقع والأمكنة التي ستقام عليها الانشاءات ومشاريع الإعمار وتحديد ميزانياتها وطريقة صرفها وتحديد أسعار الأراضي فيما سمي بالتثمين حيث أحاط التجار بمعرفة الأماكن والمواقع التي ستُقام عليها هذه المشاريع وقاموا بشراء الاراضي بأسعار زهيدة وبيعها على الدولة بأسعار خيالية, وكذلك السندات المصرفية وانشاء البنوك وغيرها الكثير من المشاريع الاقتصادية الضخمة, وكذلك إنشاء ميناء حر في المنطقة الحرة, فما كان يزعج القوى الاقتصادية في ذلك المجلس هي اتفاقية الحماية البريطانية لعام 1899 التي تمنع 'ورثة الشيخ مبارك' من التصرف في أراضي الكويت - سواء بيعها أو تأجيرها- دون موافقة بريطانيا ومن بينها بطبيعة الحال ميناء الشويخ الحيوي الذي يدر أموال طائلة خصوصا أن هذا الميناء كان مؤجراً بالكامل للإنجليز، نقول بأن نظرة فاحصة لطبيعة هذا النقاش في أروقة المجلس التأسيسي حول هذه المسائل الحساسة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن المجلس التأسيسي كان عباره عن حلبه صراع ومعارك وصولات وجولات حول من يحقق مكاسب اكثر الى درجة أن أنصار القوى الاقتصادية - ولتحقيق هذه المكاسب- كانوا يضطرون للاجتماع خارج مقر المجلس للتنسيق وتحديد الأولويات!

بعد كل ذلك, أليس من السذاجة القول بأن دستور 62 هو دستور يعبر عن إرادة الأمة؟ وأي أمة؟ أليست هذه الأمة التي يشدد عليها هذا الدستور هي حصراً 'الأسرة الحاكمة والقوى الاقتصادية' التي قامت بصياغته وليس الشعب كله وبالمعنى الحقيقي لكلمة الشعب؟ أليس ذلك دليلاً على أن الحاجه باتت اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى لكي يدخل 'الشعب' كطرف في تلك المعادلة ويعلن عن دستور جديد يعبر عن إرادته الحقيقة؟

 

د. أحمد بن عقلة العنزي

دكتوراه في الفلسفة الأوروبية - جامعة السوربون

الآن - رأي: د. أحمد عقلة العنزي

تعليقات

اكتب تعليقك