عن غرام الشمبانزي وكفاح النمل.. يكتب خليل حيدر

زاوية الكتاب

كتب 1606 مشاهدات 0


الوطن

أفكار.. وأضواء  /  غرام الشمبانزي.. وكفاح النمل

خليل علي حيدر

 

كانت سنة 2009 عام الاحتفاء بالعالم الشهير تشارلز داروين، حيث كان كتابه «أصل الانواع» قد صدر عام 1859، فكانت تلك ذكرى مرور قرن ونصف على صدوره، بما رافق نشر ذلك الكتاب من ضجة كبرى في المجالات العلمية وغيرها، لا تزال اصداؤها تتردد الى اليوم. كما يستمر الجدل حول نظريته في التطور واصل الانسان، وكذلك في البحث عما يدعم الافكار والاسس التي بنى عليها العالم الانجليزي نظريته، وما يشكك فيها. فلا يكاد يمر يوم علينا دون ان يظهر كتاب او مقال او ملخص بحث او خبر علمي ذو صلة بالنظرية وادلتها. ولا تستمد هذه الادلة من عالم الانسان وحده او حتى «القردة العليا» بأنواعها، بل تشمل كذلك الطيور والنباتات والحشرات وطبقات الارض وغيرها. كما فتح التقدم الهائل في علم الجينات والعلوم الطبيعية واستخدام الكمبيوتر وادوات البحث والاحصاء المتقدمة آفاقا جديدة للباحثين والعلماء، وهو على الارجح جهد علمي لن يتوقف لسنوات طويلة قادمة.. سعيا في حسم الجدل! ولو بدأنا الحديث عن القردة بالذات، لوجدناها قد استفادت كثيرا من تسليط الاضواء عليها، حيث اتسع التعاطف مع شتى انواعها، وارتقت مكانتها. يقول احد اساتذة جامعة «برنستون» الشهيرة بالولايات المتحدة «د. بيتر سنغر»، مؤلف كتاب «تحرير الحيوان»، في عام 1993، أسست انا وزميلة لي «مشروع القَردة العليا»، لتكريس فكرة الاعتراف بأن هذه الحيوانات تتمتع بوضع اخلاقي يليق بطبيعتها ككائنات واعية وقادرة على التفكير وتعيش حياة عاطفية وعميقة. وعلى الاقل ينبغي لها ان تتمتع بحق الحياة والحرية والحماية من التعذيب. وبالفعل، يضيف د. سنغر، احرزت تلك الفكرة في السنوات اللاحقة تقدما مطردا، ومنذ عام 2010 حظر الاتحاد الاوروبي بشكل اساسي استخدام القردة العليا في التجارب. وقد اصبحت مثل هذه التجارب اما محظورة او مقيدة بشدة في نيوزيلندا واستراليا واليابان.
وفي الولايات المتحدة تدعم مجموعة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الكونغرس تشريعا يقضي بانهاء استخدام قردة الشمبانزي في اي ابحاث قد تلحق بها اي اذى، معنويا او بدنيا.
وفي اسبانيا في عام 2008، حث قرار برلماني الحكومة على منح القردة العليا بعض الحقوق القانونية الاساسية، ولكن الحكومة الاسبانية لم تنفذ ذلك القرار حتى الآن. (الجريدة، 2011/8/14).
ويبدو ان هذا الاهتمام الكبير بالقرود والتعاطف مع حقوقها قد جاء متأخرا بعض الشيء فقد حذر الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة في تقرير عام 2010، من ان حوالي نصف اجناس قردة العالم مهددة بالانقراض. وقال مسؤولون ان التهديد الرئيس للقرود، ومنها «اللومر»، يتمثل في تدمير الغابات الاستوائية والاحراق المتعمد لها، واصطياد القرود والاتجار غير المشروع بلحومها. واضاف هؤلاء ان %48 من بين الـ634 نوعا من قردة العالم مهددة بالانقراض لهذه الاسباب. واشار التقرير الى انه لم يتبق في العالم الا ما بين 60 الى 70 قردا آسيويا من نوع «اللانغور» الذهبية الراس، والموجودة فقط في جزيرة بخليج تونكين في فيتنام (الجريدة، 2010/2/19).
وفي مجال البحث عما هو مشترك بين «القردة العليا» والانسان، نشرت نتائج دراسات عديدة، أعلنت احداها ان الشامبانزي تدرك اقتراب الموت مثل الآدميين. ويقول «جيمس اندرسون» في مجلة «كرنت بيولوجي» ان «ظواهر عدة مثل القدرة على التحليل والكلام واستخدام الادوات ووعي الذات مسائل اعتبرت انها تفصل الانسان عن الاجناس الباقية، قبل ان تبين العلوم ان هذا الفصل اقل وضوحا مما كان مفترضا». ويضيف الباحث ان «ادراك الموت من بين ظواهر نفسانية ظنناها ولفترة طويلة خاصة بالانسان، غير ان رصد قرود شامبانزي بيّن انها تتفاعل مثلا مع خسارة احد افراد مجموعتها، وانه وخلال اللحظات الاخيرة في حياة احدى اناث الشامبانزي، ظهر انها تعي فكرة الموت، وعلى نحو اكثر تطورا بكثير مما ظنناه على الارجح». وقد لاحظ الباحث انه «خلال الايام السابقة على وفاة انثى القرد هذه، كان الفريق صامتا جدا وشديد الاهتمام بها. وقبل لحظات على تسليمها الروح، راح رفاقها يداعبونها ويغسلونها. وكان هدف تصرفات اللحظات الاخيرة معروفة اذا كانت لا تزال على قيد الحياة. وعندما حدثت الوفاة، ابتعدت المجموعة عن الجيفة غير ان ابنتها البالغة، عادت للمكوث الى جوارها خلال الليل» (أوان، 2010/4/28).
وعندما حمل حراس المتنزه جيفة الام في اليوم الثاني، بقيت حيوانات الشامبانزي هادئة يعلوها الوجوم. ولعدة ايام تحاشت النوم في المكان الذي نفقت فيه على الرغم من انه كان عادة مكانا مفضلا للنوم، وظلت في حالة من الوجوم بعض الوقت بعدها. وقال طالب الدكتوراه لويس لوك الذي وضع الكاميرات في المتنزه لرصد السلوك الليلي للحيوانات، «ادهشني تجمع الحيوانات معا لحظة النفوق وما بعدها.. وكانت حيوانات الشامبانزي تقلب جسد القردة العجوز تهز كتفيها ورأسها، كما لو انها تحاول ايقاظها».
وقال الباحثون ان مشاهدة اللقطات كانت مؤثرة جدا، وربما يغير فهمنا لكيفية تعامل اقرب الاجناس شبها بالانسان مع الموت». هذا وتعتبر الشامبانزي حيوانا مهددا بالانقراض، اذ يعتقد ان 150 الفا فقط منه لا تزال تعيش في البرية (الجريدة، 2010/5/3).
وكان بعض العلماء الامريكيين قد اعلنوا في نوفمبر 2009، انهم توصلوا الى اكتشاف الاجابة عن سؤال «لماذا تمكن البشر القريبون جينيا من حيوان الشامبانزي من تطوير اللغة والقدرة على النطق، في حين لم يتمكن الاخير من ذلك». ورجح فريق من الباحثين من جامعتي كاليفورنيا وايموري في دراسة نشرت في مجلة «الطبيعة»، ان تكون الاجابة عن هذا السؤال كامنة في جين يعرف بـFOXP2، الذي حين يتعرض للتحول، قد يعوق القدرة على النطق واستخدام اللغة.
كما اشار الخبراء الى وجود اختلافات كبيرة في طريقتي عمل جين FOXP2 عند البشر والشامبانزي، ما قد يفسر لمَ البشر وحدهم القادرون على استخدام اللغة. كما اوضح العلماء ان اكتشافهم يقدم معلومات جديدة عن تطور الدماغ البشري، وقد يفتح الطريق امام صنع ادوية جديدة لمعالجة اضطرابات تصيب البشر وتتميز باعاقة القدرة على النطق مثل التوحد وانفصام الشخصية. وقال الباحث «دانييل جيسويكند» ان تركيبة الحوامض الامينية المؤلفة لهذا الجين عند البشر تغيرت بسرعة كبيرة في الوقت عينه تقريبا الذي ظهرت فيه اللغة عند الانسان المعاصر. (الجريدة 2009/11/19).
اما الباحثة «كريستين شنايدر» من «معهد ماكس بلانكس» للتطور وعلم الانسان في لايبزيغ بالمانيا، فقد توصلت الى ان القردة تهز رؤوسها كالبشر تماما، للتعبير عن رفضها او للاحتجاج. وقد توصلت الباحثة إلى هذه النتيجة بعد دراسة عدة صور فيديو لقردة كبيرة الحجم مثل الشمبانزي والبونوبوس وغيرها في ست حدائق للحيوانات بأوروبا. وقالت «شنايدر» إن من المعروف عن قردة بونوبوس الكبيرة التي تتشارك مع قردة الشمبانزي في الكثير من العادات، وتعيش بجمهورية الكونغو الديموقراطية، أنها تهز رؤوسها خلال التخاطب مع بعضها، ولتشجيع القردة الأخرى للعب معها. وأضافت إن هز الرأس لا يدل دائماً على الرفض أو قول لا حتى بين البشر، لأن ذلك يعني نعم أو الموافقة على أمر ما في دولة مثل بلغاريا. [الجريدة 2010/5/7]، وهذه الملاحظة غامضة لأن هز الرأس يكون عادة بطريقتين لدى معظم البشر إحداها رأسية للموافقة وأفقية، من اليمين إلى اليسار مثلاً، للاعتراض!
ولفت نظر بعض الباحثين «التقبيل»، هل هو ظاهرة إنسانية فقط؟ وكان الجواب أن التقبيل غير معروف عند كل فصائل المخلوقات الحيوانية، وإنما عند البشر والقردة فقط»، كما يشير إلى ذلك علماء الحيوان والبيولوجيا، وقد خضعت ظاهرة التقبيل على مدى سنوات طويلة للبحث والاستقصاء، وظهرت عدة نظريات في هذا الخصوص، ويقول الدارسون إن التقبيل المصحوب بـ«المصحة» انعكاس فطري توارثه الإنسان منذ أن كان يعتمد في حصوله على الطعام من فم أمه وهو طفل أو امتصاص الحليب من الثدي. [القبس 2009/10/19].
وتؤكد د.هيلين فيشر الامريكية من جامعة كولومبيا، في كتاب أصدرته عام 2009 بعنوان «لماذا نقع في الحب» أن الحالة التي نسميها «الحب من أول نظرة» قد ورثناها في الواقع عن الحيوانات وبخاصة الثدييات. وتورد في الكتاب مجموعة كبيرة من الأمثلة عن حيوانات حقيقية وقعت في الحب من أول نظرة مع قرين لها دون غيره من سكان الشوارع أو المنازل أو حدائق الحيوان المنتشرة في العالم. أحد تلك الأمثلة كلبة كانت تعيش وسط مجموعة من الكلاب ولم تكن تهتم بأي منها. لكن عندما حل ضيف جديد على المجموعة وقعت في غرامه من أول نظرة، فراحت تعوي بطريقة غريبة وظلت تتابعه بنظراتها وتلاحقه أينما ذهب، وفعلت المستحيل لإفهامه أنها مهتمة به، وتورد الباحثة مجموعة كبيرة من الأمثلة المشابهة عن حيوانات من كل الفصائل، الفيل وقرد البابون والأورانج أوتان من الكلاب والقطط، لتؤكد أن الإنسان ورث عن الحيوانات دوائر الدماغ الكهربائية المتعلقة بذلك الشعور الجارف والعفوي الذي تعارفنا على تسميته «الحب من أول نظرة».
ثم تتساءل الباحثة: من الأسرع في الوقوع في الحب من النظرة الأولى؟ وتجيب بأنه الرجل، والسبب المرجح هو أن الدوائر الكهربائية المتعلقة بالحب والعواطف في دماغ الرجل تتأثر بسرعة برؤية الطرف الثاني أكثر مما يحدث في دوائر دماغ المرأة» [القبس، 2009/11/21].
وتبدي بعض القرود من فصيلة «الـ«مكاكي» سلوكاً عدوانياً حتى في صغرها فهي تمارس ألعاباً خشنة وتقوم بأشياء غبية لا يعرفها القردة الآخرون، فتتحدى سلطة القردة الأقوى وتحشر نفسها بين الأم وصغارها وتتمادى حتى في شرب الكحول! [النهار، 2010/1/10].
أما أطرف ما نشرته الصحافة في هذا المجال فهي دراسة ألمانية، أظهرت أن ذكور القردة تصطحب أمهاتها معها عندما تذهب لمعاينة شريكة المستقبل [القبس 2010/9/2]. وحسب هذه الدراسة التي أجراها باحثو معهد «ماكس بلانك» الألماني المتخصص في أبحاث تطور الإنسان، فإن دعم الأم لعملية التزاوج بالأنثى الأكثر جاذبية في القطيع ومساعدتها في عدم نشوب مشاجرات على هامش العملية، يلعب دوراً كبيراً إلى جانب المرتبة الاجتماعية في القطيع، وتبين الدراسة التي أجراها الباحثون في الكونغو، أن وجود أمهات القرود أثناء العملية الجنسية لأبنائها الذكور يحسن من فرص نجاحها ويوزع التزاوج بالتساوي بين أفراد القطيع الواحد، ولأن الذكور تظل في القطيع الذي ولدت فيه، فإن أمهاتها تحتفظ بنفوذها عليها حتى سن البلوغ. وأكد أحد الباحثين أن ذكر القردة يظل لدى أسرته في حين تنتقل إليه الأنثى لتعيش معه، تماماً كما يحدث بين البشر. وظهر من مراقبة تسعة من الذكور تعيش بحرية في الغابة «أن أمهات القردة لا تنفصل عن أبنائها، وأنها تساعد أبناءها حتى سن البلوغ».
ولكن هل تطور المشاعر الاجتماعية مقتصر على بعض الثدييات كما قد توحي هذه النماذج؟ في الواقع أن القضية أعقد من ذلك. ففي بحوث العلماء على النمل، ركزوا على حالات التضحية الشخصية. «فعمل النمل في بعض الأحيان يحتاج إلى بناء ومد جسور بين السهول والمنحدرات لنقل المواد الغذائية أو المواد الأولية للبناء، وهنا تبرز روح التضحية، حيث يتبرع شبان المستعمرة بتحويل أجسادهم إلى جسور تعبر عليها مجاميع العمال من ضفة إلى أخرى، فتتشابك أياديهم وأقدامهم على شكل شريط أو سلسلة تمتد في أعالي السهل أو المنحدر، وتمسك بطرفيه أو جانبيه، ومن ثم تبدأ أقدام المجموعة تطأ هذا الجسر ذهاباً ورجوعاً، حتى تستكمل نقل جميع المواد المطلوبة». وهنا يتساءل الباحث د.مهدي السعيد، القبس 2009/11/26، «هذه المهمات الدقيقة والمنظمة والتلقائية، تستلزم وجود نظام دماغي أو شعوري متقدم، فهي لا تحدث بصورة تلقائية، أو نتيجة تمارين خاصة، على عكس الحيوانات الأخرى التي تحتاج إلى مثل هذه التمارين، مثل الفيل، الذي يتمز بضخامته وقوته، لكنه لم يستطع أن ينسج أي نظام اجتماعي له، لأن خلايا دماغه غير قادرة على الإبداع الذهني، فمدربو الفيلة ربما يستغرقون وقتاً طويلاً جداً لتعليمها بعض الحركات، كرفع الساقين الأماميين أو سحب جذوع الأشجار أو الانحناء إلى أسفل».
ويضيف د.السعيد «إن دماغ النملة أكثر تطوراً من دماغ الفيل، لأن هذا المخلوق الصغير والذكي قد طور منظومته العصبية والعقلية من خلال العمل، الذي يصقل بناء الكائنات الحية البايولوجي. ففي الحقب التاريخية المختلفة كان الفيل يحصل على غذائه دون عناء، ولا يحتاج إلى عمل مضن، على عكس النملة، التي ربما تقطع مسافات بعيدة جداً للبحث عن الغذاء، وهذا هو سر تطور الجملة العصبية عند النملة».

الوطن

تعليقات

اكتب تعليقك