المراجعة الداخلية في الجهات الحكومية والممارسات الخاطئة بقلم د. محمد آل عباس

الاقتصاد الآن

3043 مشاهدات 0


 


يعد هذا الشهر (شهر مايو) من كل عام، شهرا للتوعية بأهمية المراجعة الداخلية ودورها وقدرتها على إضافة قيمة إلى المنظمات بمختلف قطاعاتها، وفي هذا الشهر من كل عام يرفع المعهد الدولي شعاره 'كن فخورا بأنك مراجع داخلي'، ليشير إلى أي درجة تستحق هذه المهنة الاحترام والتقدير نظير ما تقدمه من خدمات للمجتمع. إنها القيمة المضافة التي تجعل من المراجعة الداخلية نشاطا مختلفا عن أي نشاط إداري آخر داخل المنظمة، ويجب على المراجعين الداخليين في مثل هذا الشهر من كل عام بذل جهد أكبر من أجل شرح معنى القيمة المضافة التي تقدمها المراجعة الداخلية كنشاط مستقل وموضوعي داخل المنظمة.

في أحد اللقاءات حول مهنة المراجعة الداخلية وردتني أسئلة عن الفرق بين إدارة المتابعة والمراقب المالي من جهة وبين ما يقوم به المراجع الداخلي، وفي لقاء آخر أصر البعض على أن المراجعة الداخلية تكرار لأعمال إدارة تأكيد الجودة، والحقيقة أن الأمر مختلف جدا، والسبب في هذه الأسئلة هو انتهاكات معايير المراجعة الداخلية في المؤسسات والمنظمات الحكومية على وجه الخصوص. فالمراجعة الداخلية مستقلة موضوعيا تقدم خدمات تأكيد واستشارة وتضيف قيمة للمنشأة من خلال هذا النشاط، المراجعة الداخلية لا تتعامل مع الأشخاص، بل مع النظام الذي تألف من موارد متعددة تتفاعل مع بعضها لتحقيق هدف معين، المراجعة الداخلية تهتم بكل عنصر من عناصر هذه الموارد وكيفية استغلالها من أجل تحقيق هدف المنظمة، لكن يجب على المراجع الداخلي أن يؤدي هذا النشاط (وهذا هو الأهم) من خلال اتباعه المعايير الدولية الصادرة بهذا الشأن. فتعريف المراجعة الداخلية تعريف إلزامي عالمي يجب على كل مراجع داخلي أن يفهمه جيدا وأن يحقق مضامينه بكل حرص، وهنا تختلف المراجعة الداخلية عن أي نشاط آخر داخل المنظمة، وهنا يجب أن يشعر المراجع الداخلي بالفخر.

فالمنظمات قد تنشئ إدارة وتعين فيها عددا كافيا من الموظفين، وقد تضع لهم قسما خاصا، بل مبنى ضخما، وتوفر لهم جميع الموارد اللازمة، لكنها تخل بشروط ومعايير المراجعة التي تشدد على استقلال المراجع الداخلي ومرجعيته النظامية في الهيكل التنظيمي التي تضمن له هذا الاستقلال، وتضمن له الوصول إلى أعلى الهرم، وهو في الغالب مجلس الإدارة. لهذا فإنه لا يحق للمنظمات - نظرا لإخلالها بهذا الشرط وإصرارها على مخالفته - أن تضع لافتة المراجعة الداخلية على ذلك المبنى أو القسم، ويمكن أن تسميها ما تشاء كإدارة المتابعة، إدارة ضمان الجودة، المراقب المالي، لكنها إذا أرادت أن تسميها مراجعة داخلية فيجب أن تعود وتلتزم بمعاييرها، ولهذا يجب على المراجع الداخلي أن يفتخر بذلك.

لا أريد أن أتورط في شرح ماهية المراجعة الداخلية وأنشطتها، ولعل ذلك يأتي في مقال أكثر مناسبة من هذا، لكن ما أريد أن أشدد عليه في هذا الشأن، هو أن مخالفة معايير المراجعة الداخلية ليست أمرا يسيرا، بل هي أمر حيوي للمهنة، وسيتعرض المهنيون الذين يمارسون أعمالهم في الجهات الحكومية دون التزام بالمعايير الدولية إلى كثير من النقد من زملاء المهنة، بل قد يتم وصف أعمالهم بعدم المهنية، وهذا معناه أن المراجع الداخلي يقوم بدور غير ما هو له، سمّه ما شئت، ولهذا تتنوع المشاكل وتتعدد.

فمن أشهر أنواع مخالفات الجهات الحكومية لمعايير المراجعة الداخلية انتهاكاتها لمعيار الاستقلال، خاصة الاستقلال التنظيمي، فبعض الجهات تصر على أن يتبع مدير المراجعة الداخلية للوكيل أو حتى نائبه، بل بعضها يربطه بمدير الشؤون المالية والإدارية، وفي المؤسسات العامة والجامعات تبدو الصورة أكثر قتامة عندما تصر بعض الجهات على أن يتبع مدير المراجعة الداخلية للمحافظ أو مدير الجامعة، بينما هناك مجلس إدارة وهناك مجلس للجامعة، بل إن بعض الجامعات ذهبت إلى ما هو أشد فتم ربط المراجع الداخلي بوكيل الجامعة. إن معنى أن يتبع مدير المراجعة لمستوى إداري أقل من أعلى سلطة وهي مجلس الإدارة أو مجلس الجامعة (أو الوزير في حالة عدم وجود مجالس للإدارة) معناه عدم قدرة المراجع الداخلي على التفاعل والتواصل مع المجلس (أو الرئيس الأعلى مباشرة) وهذا إخلال كبير بالمعايير، بل بالمهنة. لذا فإن ما يمكن قوله في هذه المؤسسات والجامعات هو أنهم لم يقوموا حتى الآن بتفعيل المراجعة الداخلية على الرغم من تعيين المراجعين وإنشاء الإدارة، فالتفعيل هو الالتزام الكامل بالمعايير وعدم الإخلال بها، ولعله من المناسب لهذه المؤسسات الحكومية والجامعات أن تسمي تلك الإدارة التي أنشأتها بأي اسم (كإدارة الرقابة، إدارة تأكيد الجودة، إدارة المتابعة)، لكنه من غير الإنصاف أن تسميها إدارة المراجعة الداخلية، وإذا استمر الحال كما هو الآن فسينشأ - حتما - صراع داخل المنظمة حول صلاحيات هذه الإدارة وعدم فهم دورها.

من المخالفات الشهيرة، حصر نطاق المراجعة في العمليات المالية والتحقق من صدق التقارير المالية، ويمكن لأي موظف يقرأ مقالي الآن أن يسأل نفسه: هل يعرف دورا للمراجعة الداخلية في مؤسسته (إذا كانت موجودة) غير هذا الدور؟ هذه المخالفة تحدث حتى في تلك المؤسسات التي التزمت بالاستقلال التنظيمي ومنحت المراجع الداخلي ضمانا بالوصول إلى أعلى سلطة ورفع التقارير مباشرة إليها، لكنها ضيقت نطاق أعمالها في العمليات المالية فقط، هنا سيبدأ الجميع بالتساؤل - ولهم ذلك: ما الفرق بين المراجعة الداخلية والمراقب المالي؟ وقد يتصادم موظفو الإدارة المالية الذين يقومون بأعمال التدقيق مع المراجعين الداخليين، لكن عندما تعود المراجعة الداخلية إلى قضيتها الأساسية ويتم الالتزام بمعايير المراجعة فيما يتعلق بتحديد نطاق أعمال المراجعة الداخلية والاتفاق على ميثاق للمراجعة معلنٍ وواضح ومعتمد من أعلى سلطة، فإن الأمور ستأخذ نصابها وتتكامل الأدوار بدلا من أن تتصادم. والله أعلم.

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك