أهو تضخم أم تلاعب بالأسعار؟ بقلم د.فيصل بن صفوق البشير المرشد
الاقتصاد الآنإبريل 16, 2013, 1:12 م 1244 مشاهدات 0
من أسوأ الظواهر الاقتصادية ظاهرة التضخم، فهو وباء اقتصادي مميت إن لم يعالج في المهد. والتضخم هو الزيادة المستمرة في الأسعار وليس الزيادات التي تنشأ لظروف طارئة في فترة ما. فكلمة المستمرة هي الصفة التي تميز التضخم. أما تعريفه فلا يتعدى كونه أموالا كثيرة تطارد سلعا وخدمات محدودة.
والتضخم ظاهرة عالمية لم يسلم من بلائه أي اقتصاد في العالم، وطرق معالجته اختلفت بين الدول حسب أنواعه، والنظرة إليه كذلك اختلفت بين الدول، فمنها من عرف خطره وعالجه فور ظهوره، وآخر استخف به ودفع الثمن غاليا من بطالة وغيرها حين استمرت زيادة الأسعار واستوطن التضخم في كل النشاطات الاقتصادية. وما فترة الثلاثينيات الميلادية بالذات في ألمانيا والستينيات في أمريكا اللاتينية من القرن الماضي إلا أمثلة حية على صعوبة التخلص منه حين يستهان به. والسعودية ليست استثناء، غير أنها حاولت السيطرة عليه بكل الطرق المتاحة من زيادة في عرض السلع والخدمات ودفعت الثمن غاليا للتخفيف من شره على المستهلك النهائي من خلال إعانة السلع الضرورية والاستراتيجية. وما فترة الوفرة (الطفرة) المالية الأولى في سبعينيات القرن الماضي إلا دليل قاطع على ما عانته المملكة من مصائب التضخم. ولم تُخفِ الحكومة نسبته العالية لتُجمِّل صورتها أمام العالم أجمع وشعبها بالذات. وفي هذا اختلفت عن ذلك الجار الذي عانى التضخم مثل المملكة وكان يصرح بين الحين والآخر بأنه قضى عليه، ما حدا بحكومة المملكة إرسال كاتب هذه السطور للوقوف على الحقيقة. فوجدنا أن الادعاءات ما هي إلا أضغاث أحلام عاشها زعيم ذلك البلد، الذي كان يكرر دائما أنه لا يؤمن بالخبراء والمستشارين، وأن بلاده في خلال السنوات الخمس فقط ستتخطى بريطانيا وفرنسا وتصبح في مصاف الدول الصناعية من خلال تنفيذ استراتيجيته التنموية التي خطتها عبقريته الفذة.
وفي هذه الأيام تثار ملاحظات بين الحين والآخر حول صحة المعلومات (الإحصاءات) التي تصدرها الدولة السعودية ممثلة في مصلحة الإحصاءات والمعلومات حول الكثير من المؤشرات الاقتصادية، وبالذات التضخم وتكلفة المعيشة. وهذا شيء جيد والأمل أن هدفه تحسين جودة الإحصاءات حتى تمثل الواقع في الاقتصاد السعودي، وليس إثارة الشكوك فقط، ومن يشكك في نسبة التضخم أو غيرها من النسب ما عليه إلا إظهار ما عنده معتمدا على أرقام منبثقة من البيئة الاقتصادية السعودية. والملاحظات الشخصية المعتمدة على عدد قليل من المشاهدات ومغلفة بعواطفنا ليس لها محل في الأبحاث العلمية. إذن من يشكك في أرقام مصلحة الإحصاءات والمعلومات ما عليه إلا إقناعنا بغيرها من خلال البحث الميداني، وفي غياب ذلك ما علينا إلا قبول ما تصدره المصلحة مع محاولة التدقيق والتمحيص لتحسينه نوعا وكمّاً، لأن ما تصدره المصلحة هو ثروة من ثروات المملكة ولا يجب الحكم عليه جزافا. وفي هذه المناسبة يجب علينا الحذر من الخلط بين التضخم وتكلفة المعيشة فهما مختلفان إلى حد ما، فنسبة التضخم تحتوي على تأثيرات مؤشرات من الصعب على نسبة تكلفة المعيشة إظهارها نظرا لاعتماد الأخيرة على سلة من السلع والخدمات تختار عادة مسبقا، ومن المستحيل أن تمثل كل السلع والخدمات في الاقتصاد.
يعتمد المشككون في هذه الأرقام على أن تأثير مصروفات الحكومة الهائلة بالذات لا يتناسب ونسبة التضخم المعلنة، أي أن النسبة يجب أن تكون أعلى نظرا لتأثير هذه المصروفات في الاقتصاد السعودي. ومع إيماني بمنطقية هذه الملاحظة فإنها تفقد الكثير من الزخم على الإقناع حين نعرف نوع المصروفات الحكومية (خاصة الاستثمار في التجهيزات الأساسية) وطبيعة الاقتصاد السعودي.
ولهذا فإنني مقتنع بأن العوامل الاقتصادية المؤثرة في نسبة التضخم (زيادة الأسعار المستمرة) إما غير موجودة أو أن تأثيرها ضعيف جدا، وأهمها:
أولا: يعاني الكثير من دول العالم شبه ركود اقتصادي أو نمو ضعيف ولا يعاني التضخم، وفي هذا انتفاء لاستيراد التضخم إلى المملكة.
ثانيا: نظرا للتسرب الهائل من مصروفات الدولة إلى الخارج لانخفاض المحتوى المحلي (من عمالة ومواد وغيرها) في المشاريع خاصة فإن المضاعف المالي Fiscal Multiplier يجب أن يكون منخفضا، ولهذا لا يشكل ضغطا على أسعار السلع والخدمات في اقتصاد مفتوح (فليس كل سمننا في دقيقنا كما يظن).
لهذا فإن أي زيادة في الأسعار غير مبررة اقتصاديا، وما هي إلا تلاعب بها من قبل التجار وغيرهم، وما على الجهات التنفيذية إلا معالجة الأمر بالرقابة الذكية المباشرة المعتمدة على أسعار السلع من مصادرها ومعرفة هامش الربح.
أرجو ألا يفهم مما ذكر أعلاه أنني أنكر أن المستهلك في المملكة يعاني ارتفاعا في الأسعار، فهذه حقيقة قائمة غير أنها مصطنعة ولا تعود إلى أسباب اقتصادية (مالية أو نقدية)، بل إلى تلاعب مباشر بالأسعار من خلال قوة الاحتكارات بالذات في الاقتصاد السعودي لتعظيم هامش الربح. ويجب ألا ننسى قول المتلاعبين بالأسعار أحيانا، إن البيروقراطية الحكومية مكلفة جدا لهم، ولهذا فما عليهم إلا تمرير هذه التكلفة الهامشية إلى المستهلك من خلال رفع سعر السلعة.
إذن التشخيص الدقيق هو الأهم لمعالجة أي داء سواء كان اقتصاديا أو غيره، ودعنا نبتعد عن التشخيص الخاطئ لظاهرة زيادة الأسعار في السعودية، الذي قد يقود إلى علاج خاطئ يزيد الوضع سوءا، وعندها سيدفع الاقتصاد السعودي ثمنا غاليا ومؤلما قد يتمثل في انخفاض في مستوى معيشة الفرد وانحراف التنمية عن مسارها الصحيح.
تعليقات