الهزّات التي تضرب قبرص تهدد استقرار العالم بقلم توني باربر

الاقتصاد الآن

554 مشاهدات 0


 

تم تصوير الجزر في الأدب الأوروبي، بدءا من هومر حتى إتش جي ويلز، على أنها ملاذ مشمس للشعوذة وأماكن يتم قلب النظام الطبيعي فيها لإحداث تأثير رهيب. وبالنسبة لزعماء منطقة اليورو، قبرص تشتمل على كل هذه الصفات.

من ناحية، يجب ألا يلوموا غير أنفسهم، لأنه ما كان عليهم التوقيع يوم السبت الماضي على السرقة المقننة لصغار المدخرين المؤمن عليهم، وهي سرقة تم إلباسها ثوب مساهمة في الإنقاذ المالي لقبرص. ومن ناحية أخرى، ما كان ينبغي لرئيس قبرص، نيكوس أناستاسيديس، المؤيد لأوروبا ظاهريا، أن يصر على تخفيف العبء الواقع على المودعين الأجانب من أصحاب الملايين– وأغلبهم من الروس.

لكن الغارة المقترحة على المدخرات في البنوك هوت إلى قاع البحر الأبيض المتوسط يوم الثلاثاء، عندما لم يصوت عضو واحد من المجلس التشريعي في الجزيرة لصالحها. والآن وقع الضرر بالفعل وعادت للظهور كل المخاوف القديمة بشأن تكامل الاتحاد النقدي الأوروبي الذي مضى عليه 14 عاما، مع بث بعض السياسيين في منطقة اليورو فكرة أن قبرص ربما تترك الاتحاد.

وتجتمع هذه المخاوف مع مشاعر قلق جديدة بشأن التأثير الجيوسياسي لعدم الاستقرار في قبرص. فالجزيرة ليست فقط مقسمة فعليا بين القبارصة اليونانيين والأتراك، لكنها تقع في منطقة قابلة للاشتعال، تصطدم فيها مصالح عسكرية، ودبلوماسية، ومالية، وأخرى متعلقة بالطاقة، خاصة بست قوى على الأقل.

وهكذا تذكرنا قبرص بأن المتاعب التي تسببها الجزر غالبا ما تكون متناسبة عكسيا مع حجمها، ونتذكر الآن ما حدث في تايوان عام 1949، وما حدث في كوبا عام 1962، وجزر فوكلاند عام 1982. وقد وصلت الأزمة المالية الأوروبية إلى ارتفاعات مذهلة في كل من آيسلندا وأيرلندا. ومع ذلك، قبرص تبرز من بين الجزر، نظرا لمسار سياساتها المتعرجة هبوطا منذ أن حصلت على استقلالها عن بريطانيا عام 1960.

وتوضح أكشاك الهاتف الحمراء، وصناديق البريد الطويلة الحمراء، ووجبة السمك والبطاطا، والحانات، وممارسة القيادة على اليسار كيف أن الثقافة البريطانية سادت الحياة القبرصية بعد الاستقلال. أما من حيث الدبلوماسية، فكانت التأثيرات أقل وضوحا. فقد انضمت قبرص للكومنولث عام 1961، لكنها ـ مع رغبتها في عدم المشاركة في الحرب الباردة ـ راعت أيضا أن تصبح عضوا مؤسسا لحركة عدم الانحياز، إلى جانب قوى ثقيلة الوزن، مثل مصر، والهند، وإندونيسيا. وبما أنها قريبة من إسرائيل، ولبنان، وسورية أكثر من البر الرئيسي الأوروبي، وبما أنها تضررت من الحرب الأهلية بين مجتمعيها، اليوناني والتركي، بالكاد تصورت قبرص في هذا العهد أن قَدَرَها يمكن أن يكون مرتبطا بعملية التكامل الأوروبي الناشئة.

وقد تغير كل شيء بعد الغزو التركي عام 1974، الذي أعقب انقلابا مدعوما من اليونان يهدف إلى توحيد قبرص مع اليونان. ومع تقسيم الجزيرة، واحتلال القوات التركية الجزء الشمالي منها، سعى القبارصة اليونانيون إلى دعم دبلوماسي من كل ركن من أركان الأرض. وفي عام 2006 وصل هذا إلى حدود غريبة للغاية عندما أصبحت قبرص، خلال محاولتها استمالة فرنسا، عضوا منتسبا في المنظمة الدولية للفرانكوفونية ـ مجموعة الشعوب المتحدثة بالفرنسية.

وفي الوقت نفسه سقط حائط برلين وكان الاتحاد الأوروبي يمتص معظم أوروبا المركزية والشرقية. وانضمت قبرص للاتحاد الأوروبي عام 2004، جزئيا لتجنب العزلة الإقليمية، وجزئيا لتحقيق منافع اقتصادية، وجزئيا لمنع الضرر الذي يمكن أن يقع عليها من جانب تركيا.

وعلى طول الطريق اكتسبت قبرص أصدقاء مشكوكا فيهم، مثل سلوبودان ميلوسيفيتش، الديكتاتور الصربي الذي استخدم نظامه المثير للحرب، الذي تلقى ضربة من العقوبات الغربية، الجزيرة لإجراء عمليات مالية. وأيضا أتى روس ما بعد الشيوعية إلى قبرص، وهؤلاء لا تجذبهم وجبة السمك والبطاطا وإنما موثوقية القانون الإنجليزي بالنسبة للمعاملات التجارية.

وفي الأزمة الحالية توجد لمصالح روسيا مستويات متعددة. فالكريملين لا يشارك بالضرورة الشركات الروسية والأغنياء الجدد الرأي القائل بتفضيل الحفاظ على قبرص مركزا استثماريا ذي ضرائب منخفضة ومخبأ للمبالغ النقدية المكدسة. لكن مصالح الطاقة الروسية ربما ترغب في شريحة من طفرة الغاز، إذا تبين أنها طفرة، وإذا كان لا بد أن يفقد الكريملين قاعدته البحرية في مدينة الطرطوس السورية ربما يرغب في وجود بديل لها في قبرص.

ويمكن القول إن مصالح روسيا على المدى الطويل تكمن في إبقاء قبرص في منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، وفي بعض الأحيان يكون القبارصة اليونانيون مدافعين مفيدين عن القضايا، التي تناضل من أجلها موسكو، كونهم يشعرون بالامتنان للدعم الروسي لهم في النزاع القبرصي. وفي عام 2008 قدموا، مثل روسيا، حججا تثبت خطأ اعتراف الاتحاد الأوروبي باستقلال كوسوفو. ووقفوا أيضا بحزم ضد عقاب الاتحاد الأوروبي لموسكو بسبب تجزئتها لجورجيا.

لكن الأزمة الأخيرة دخلت إلى بريطانيا، واليونان، وإسرائيل، والولايات المتحدة، وتركيا، ناهيك عن ألمانيا باعتبارها صانعة القرار التي لا غنى عنها في منطقة اليورو. وفي أماكن ليست بعيدة تحتدم حربا أهلية في سورية وتقلق اضطرابات سياسية مصر والعراق، بل قبرص ليست محصنة ضد التوترات الدولية بشأن إيران. وتم رفع حالة الطوارئ الاقتصادية في الجزيرة في تموز (يوليو) 2011، حين أدى انفجار أسلحة إيرانية استولت عليها البحرية الأمريكية في مخبأ في الجزيرة، وأودعتها مستودعا في قاعدة قبرصية، إلى قطع نصف الإمداد الكهربائي في الجزيرة.

وفي مقبل الأيام سيكون على المحك ما هو أكثر بكثير من ملاءة بنوك قبرص المالية، أو عضويتها في منطقة اليورو. مثلا، أي إنقاذ مالي مرتبط بإيرادات مستقبلية من احتياطيات الغاز المكتشفة حديثا في قبرص، التي تقدر قيمتها مبدئيا بمبلغ يصل إلى 80 مليار دولار، سيرفع المطالبات المتنافسة بشدة بالحق في الأصول.

وسيكون القبارصة الأتراك، المدعمون من تركيا، التي يعتبر وجودها العسكري في شمال قبرص بمثابة تذكير دائم بهشاشة الجزيرة السياسية، من بين المطالبين. وسيورط مثل هذا النزاع اليونان، الراعي التقليدي للقبارصة اليونانيين، وإسرائيل، شريكتهم في تنمية الطاقة، تدريجيا. وسيتم استدراج الولايات المتحدة، التي يجعلها أسطولها السادس القوة البحرية البارزة في البحر الأبيض المتوسط، والشيء نفسه بالنسبة لبريطانيا في وجود قاعدتيها العسكريتين السياديتين في قبرص.

وسيتطلب منع هذه التشابكات من الخروج عن السيطرة حنكة سياسية عليا من قبل جميع المعنيين. وربما تجعل فكرة أن العام المقبل هو الذكرى المائة لإطلاق النار على الأرشيدوق فرانز فرديناند* العقول أكثر تركيزا.

*ولي عهد النمسا الذي أطلق اغتياله في سراييفو في 28 حزيران (يونيو) 1914 شرارة الحرب العالمية الأولى

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك