نحن مَن يفسد المسؤولين! بقلم د. محمد بن سعود المسعود
الاقتصاد الآنمارس 17, 2013, 4:05 م 1678 مشاهدات 0
البيئة المساندة للفساد نحن، والبيئة المنتجة للفساد أيضا نحن! المسؤول الفاسد هو غالبا ردة فعل مستجيبة لبواعث الفساد، وغياب العقوبة عليه.
نحن من بلد يولي الوزارة لرجل دون كشف حساب بالذمة المالية، ونعفيه منها دون حساب من أين لك هذا؟! وهذا نظام لا يعفى منه حتى رئيس البيت الأبيض، إلا نحن. ولهذا يجد مَن يضعف ويقبض لا يخاف غرقا في مساءلة، ولا يخاف قبضا على حساب.
نحن من بلد.. نمنح المسؤول ألقابا، وأسماء، وتفخيما ما يجعله يقترب من ـــ أنا ربكم الأعلى ـــ وتتابع عليه الولائم، والدعوات، والتبريكات. والصالحات الطيبات من الهدايا والهبات.. حتى يفقد توازنه فتتحول الوزارة إلى تشريف برسم التوقيع لا أكثر من ذلك.
المسؤول بعد الوزارة ينسى الطرق المزدحمة من خلال المسار الخاص، وينسى البيوت الفقيرة الملاصقة للقصور، وكأنها حظيرة للحيوانات الأليفة للقصر.. وينسى ذل السؤال، ومهانة الطلب، وطول الوقوف على باب مسؤول برجاء الدخول، وينسى ماضيه وتسقط من ذاكرته كل الأسماء، وتختفي كل العناوين وتظل حوله هالات البخور أينما حل وفي كل مكان ينزل!
المسؤول في العالم كله.. يجول بشكل طبيعي بين فروع وزارته، ويراقب سير الأمور بحضوره الشخصي ويستمع للناس عن التقصير، والقصور. ويلتقي موظفي الوزارة لسماع أفكار التطوير وأفكار الخدمة الأفضل للجمهور، ويطارد كل فكرة ورؤية للتطوير وتنمية وزارته ومنسوبيها، وهذا عمله اليومي المعتاد والطبيعي. ولكن المسؤول عندنا.. لو فعلها وزار فرعا من فروع وزارته ''سرا''.. إذا لنزل الوحي على ثلاثة صحافيين صادف وجودهم في الفرع نفسه مع فريق التصوير بكامل تجهيزاته، وصادف أن مدير الفرع للوزارة قد أعد باقة ورد عملاقة جدا، لهذه الزيارة المفاجئة التي لا يعلم بها أحد.. لكونها برسم البطولة لرجل غير طبيعي لا يزال يتلبس وزارة! وهنا تتحول القصة إلى رجل غير طبيعي في مكان سيئ بشكل غير طبيعي أيضا.. ولكنه لم يره.. حيث إن أضواء التصوير جعلته لا يبصر ما حوله.
المسؤول في العالم كله.. الذي يرفع المجتمع إليه عيوب فروع وزارته وهو جاهل بها لا يظل المسؤول.. والمسؤول الذي يأتي للتفتيش بمواعيد مسبقة لا يظل مسؤولا! والمسؤول الذي يخرج كل منسوبي الوزارة لاستقباله في المطار.. حين ينتقل من مدينة إلى مدينة ليس بمسؤول، بل صاحب حضرة! والمسؤول الذي يفتش في حدود العبور في الممرات المزينة بباقات الورد الطبيعي ويوزع الابتسامات السعيدة على الصحافيين والصحافيات، والمصورين والمصورات، ليس مسؤولا، بل ممثل دون مؤهل وبلا موهبة.
هو ـــ بشت رسمي ـــ متنقل، في موكب باهظ التكاليف على المال العام من أي مسؤول. ولذا لا يهم الاسم الذي يكون خلف آل بشت، ولا يهم من يكون، ولا يهم إن سبق اسمه حرف دال مفخمة أو تجرد عنها.
كل شيء هنا يغري بألا يكون المسؤول مسؤولا مسؤولية مباشرة عن علاج أمراض وزارته، وأن يعمل في إطار التكليف الشرعي والوطني لعدد من المهام المجدولة في ميزانية مرصودة، يتولى إدارة المنجزات ويحاسب عليها بمرتبة من الشرف.
لقد اختل الميزان من زمن بعيد، من زمن لا يمكن لأحد أن يقول لمسؤول ماذا قدمت؟ بعد كل هالات البخور من قبل دخولك الوزارة ومن بعد خروجك منها؟! من زمن يأتي المسؤول للوزارة وهو جاهل تماما بالمطلوب منه بالتحديد! وما المهام المراد إنجازها، والأهداف المراد تحقيقها. وفي خلال كم من الزمن؟! ومَن الرقيب والحسيب على التفاصيل؟ إلى حد دفع تكلفة رسم خطين متنافرين ثمانية ملايين ريال! وطباعة ورق لواحدة من الوزارات بنصف مليار ريال سنويا! وبناء خمسة حمامات عمومية بخمسة ملايين ريال، وإعادة ''10 سم'' من الزفت لشارع ضال في قرية صغيرة بـ 20 مليون ريال.. والحبل على الجرار يدور.. والشمس تجري لا معقب على فعل المسؤول في المال العام ولا محاسب له.
هذا الواقع يفرض بشكل طبيعي. إيجاد برلمانات وزارية داخل كل وزارة ـــ مجلس التخطيط والرقابة والمحاسبة والتنفيذ ـــ والمسؤول جزء من هذا الفريق. وأن يكون بعض الأعضاء فيه (منتخبا) بشروط الاختصاص المعرفي. ليمثل هذا البرلمان المصغر الرقابة على المال العام، وبذا تخضع الوزارات للمحاسبة القانونية المالية المستقلة من خارج الوزارة وخارج ولايتها عليها. حيث إن التجارب الماضية لا يمكن الوثوق بتكرارها، ولا يمكن التعويل على ضمائر الأشخاص، ولا الرهان على الذمة الشخصية.
كما يجب أن يكون المسؤولون مواطنين في كل تنقلاتهم وحياتهم وقربهم من الناس. ويجب تقليل جرعات التفخيم ونفش الريش على أبدانهم ويجب أن يكون لكل مسؤول حوار مفتوح دوري يحضره أهل الحل والعقد من المجتمع لمحاسبته على ما فعل وما لم يفعل، وعلى تقصيره، وعيوب قراراته. يخرج بتوصيات ملزمة لا بطواحين كلام فارغ.
الوجع في حياة الناس قيض راحتهم، أقلق سكينة الاطمئنان لمستقبل أولادهم، حتى بات فعلا خارج الطبيعي أن ترى مسؤولا دون بشت. وخارج عن الطبيعة أن تراه يتفقد، ويراقب ما هو مسؤول مسؤولية مباشرة عنه.
لا بد ألا تسقط كلمة ''بعض'' أبدا في دلالة المقال
تعليقات