التفكير خارج الصندوق بقلم حازم البيبلاوي

الاقتصاد الآن

812 مشاهدات 0



 

ليس المقصود من هذا العنوان الاشارة‏,‏ بوجه خاص‏,‏ الي صندوق النقد الدولي‏,‏ وانما المقصود هو التفكير عن حلول غير تقليدية لمشكلاتنا والبحث عن أفكار جديدة ابتكارية وخارجة عن المألوف‏.‏

فهناك اتهام, صريح أو ضمني, بأن المسئولين ينتهجون عادة أساليب تقليدية مستقرة بلا خيال أو ابداع. وهو اتهام, وان كان في أحيان كثيرة, مبررا, فانه في أحيان أخري لا يخلو من المبالغة. ولا شك أن التفكير الابداعي هو أحد أهم عوامل التقدم. فقدرة الانسان علي الخيال, وعلي التفكير خارج الصندوق, بالمعني المتقدم, هو السبب في ظهور الحضارات وتقدم الأمم. كل هذا صحيح ولا اعتقد ان هناك خلافا حوله. اذن أين المشكلة؟


المشكلة أن هناك عددا غير قليل من الكتاب, وقد زادت أعدادهم في الفترة الأخيرة, الذين ينتقدون العديد من السياسات القائمة مطالبين بضرورة التفكير خارج الصندوق, دون تقديم أي بدائل مبتكرة واقتراحات محددة بدلا من تلك الأفكار التقليدية. وقد كان موضوع الاقتراض من صندوق النقد الدولي ومحاولة جذب الاستثمارات الأجنبية من أكثر الموضوعات التي أثارت اعتراضا, باعتبارها نوعا من التفكير من داخل الصندوق في حين أن المطلوب هو البحث عن أفكار جديدة مبتكرة.


ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الاعتماد علي مصادر خارجية مثل صندوق النقد الدولي أو الاستثمارات الأجنبية لا تخلو من العديد من القيود والأعباء, ولكن البدائل ـ اذا كانت موجودة ـ لا يخلو هي الأخري من قيود واعباء أخري قد تفوقها ألما وصعوبة. فنحن دائما ازاء خيارات ولكل منها مزايا وأعباء, ولا يوجد خيار واحد بلا تكلفة أو تضحية. والسؤال هو كيفية الاختيار لتقليل الأعباء والتكاليف وليس الغاءها. فلا شيء في الحياة بلا تكلفة, وليس هناك وجبات مجانية! فالخيار عادة ليس بين الحسن والسييء, بل هو غالبا خيار بين المر والأمر منه.
 

كذلك فليس الأمر دائما مجرد وجهات نظر يمكن أن تختلف بين كاتب وآخر, بل هناك أحيانا قيود حديدية علي القرارات ولا يمكن تجاوزها. فكما أن عمليات الحساب من جمع وطرح أو ضرب وقسمة, ليست مجالا لاختلاف الأراء بل هي قيود حديدية علي قواعد الحساب, فكذا العديد من العلاقات الاقتصادية. فكما أنه ليست هناك وجهات نظر متعددة حول حاصل ضرب عددين, فلا تستطيع دولة ـ أو فرد ـ أن تنفق أكثر من دخلها الا بالاستعانة بالغير, وفي هذه الحدود فقط. كذلك فان انتاج الدولة يوزع علي الاستهلاك والاستثمار, ولا يمكن زيادة الاستثمار دون ضغط علي الاستهلاك. وبالمثل فان النمو الاقتصادي وزيادة الانتاج وحدها هي التي تسمح بزيادة الاستهلاك والاستثمار معا, ولكن زيادة الانتاج لا تتحقق في التو واللحظة وانما تتطلب فترة زمنية يزيد فيها الاستثمار ويضبط معها الاستهلاك. كذلك لا يمكن بيع سلعة بأقل من تكلفتها, واذا حدث وأن بيعت بثمن أقل, فان الفارق في التكلفة لابد وأن يتحمله آخرون.

واذا كانت بعض السلع المدعمة تباع في السوق بأسعار أقل من تكلفتها, فليس معني ذلك أن هذه التكلفة قد انخفضت علي المجتمع في مجموعه مع الدعم, وانما معناه أن فرق التكلفة قد تم تحميله علي آخرين في المجتمع في شكل ارتفاع في الأسعار, أو نقص في الاستثمارات الممكنة أو الخدمات المقدمة, أو باهدار في صيانة المرافق العامة. فالتكلفة يدفعها دائما المجتمع. كذلك فانه ليس من الضروري أن يصل الدعم في أغلبيته للمستهلك بل أن أغلبه يبدد لمصلحة الوسطاء. فالدعم ليس دائما نعمة علي المستهلكين بل قد تكون له تكلفة عالية علي مستقبل المجتمع باهدار موارد مهمة علي الوسطاء وحرمان المجتمع من موارد كان يمكن تخصيصها للاستثمار وتحسين آفاق المستقبل. وأخيرا, وبصرف النظر عن فوائد وعيوب الدعم, فان هناك استحالة في استمرار عجز الموازنة الي مالا نهاية. هذه كلها حقائق أشبه بالمعادلات الحسابية, وليست مجرد وجهات نظر يمكن الاختلاف حولها.


كذلك كثر الجدل في اطار الحديث عن ضرورة التفكير خارج الصندوق, بتأكيد ضرورة الاعتماد علي الذات. وهذه دعوة صحيحة وهامة, ولم يحدث أن تقدمت دولة الا بجهود أبنائها. فلا يمكن أن يتحقق أي انجاز كبير اعتمادا علي الآخرين فقط. ولكن الاعتماد علي الذات لا يعني الانكفاء علي الذات ومعاداة الغير, فالشوفونية والعداء للأجنبي مرض خطير وضار.

لقد عرفت البشرية تاريخا مظلما وظالما للاستعمار, استغلت فيه الدول الاستعمارية( انجلترا وفرنسا بوجه خاص) مستعمريها. ولكن ليس معني ذلك أن كل معاملات العالم هي من قبيل الاستعمار والاستغلال. فكثيرا ما جاء تقدم الدول اقتصاديا من خلال التعاون الدولي. فالولايات المتحدة الأمريكية, طيلة القرن التاسع عشر وجزء من القرن العشرين, كانت تتلقي استثمارات خارجية ساعدتها علي نهضتها الصناعية.

واذا نظرنا الي التاريخ الحديث نجد أن معظم الدول التي حققت نهضة صناعية منذ نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين قد استفادت من الاستثمارات الأجنبية. فتجارب اليابان ثم دول جنوب شرق آسيا, وأخيرا الصين وكذا الهند والبرازيل, قد اعتمدت بشكل كبير علي الاستثمارات الأجنبية ثم علي قدرتها علي التصدير. فنجاح تجربة اليابان أو النمور الآسيوية أو الصين وأخيرا الهند اعتمادها كلها علي الانفتاح علي العالم الخارجي وعلي التصدير. وحتي الاتحاد السوفيتي والذي اعتمد علي سياسة الاكتفاء الذاتي والانغلاق علي الداخل, قد استفاد هو الآخر بشكل كبير من العلاقات الاقتصادية الخارجية. ولعلنا نتذكر أن بداية برامج التخطيط الخمسية, والتي بدأت في الاتحاد السوفيتي في1928, قد تزامنت مع الأزمة الاقتصادية العالمية مما مكن الاتحاد السوفيتي من الحصول علي الكثير من التسهيلات الائتمانية من البنوك الأمريكية والتي كانت تواجه انكماشا اقتصاديا محليا مما دفعها الي زيادة التسهيلات الائتمانية للاتحاد السوفيتي. وقد ساعدت هذه التسهيلات الائتمانية علي استيراد العديد من وسائل الانتاج الحديثة الي روسيا. وبعد دخول روسيا الحرب ضد ألمانيا استفادت من قانون الاعارة والتأجير في أمريكا مما سهل عليها الحصول علي أكثر من الواردات الصناعية الأمريكية وذلك بتسهيلات ائتمانية ساعدتها علي نهضتها التكنولوجية. وهكذا فان تجارب الدول للتصنيع في القرن العشرين قد اعتمدت بشكل كبير علي التصدير وعلي الاستثمار الأجنبي.


والخلاصة أنه يجب حقا التفكير خارج الصندوق, ولكن هناك حقائق لا يمكن القفز عليها. فالدولة لا تستطيع أن تعيش بأكثر من مواردها, كما أن الدول الفقيرة تستهلك نسبة مرتفعة من انتاجها, وادخارها المحلي غير كاف, ولا يمكن تحقيق معدلات عالية من النمو دون زيادة الاستثمار المحلي, وهو ما لا يمكن تحقيقه دون ضغط علي الاستهلاك أو بالاستعانة باستثمارات أجنبية. وبهذه المناسبة, فان معدل الاستهلاك في مصر يبلغ نحو85% من الناتج القومي أي أن الادخار يدور حول15% فقط, وهو معدل غير كاف لتحقيق نهضة اقتصادية. وقد نجحت دول النمور الآسيوية ثم الصين في تحقيق مثل تلك النهضة لأنها استطاعت أن تقوم باستثمارات بمعدل يفوق30% من الناتج القومي علي مدي نحو ثلاثة عقود. فمصر في حاجة الي استثمارات خارجية. وأخيرا, فانه ينبغي التذكير بأن التقدم لا يتحقق الا بنوع من التضحيات, كما أنه لا يتحقق بين يوم وليلة, ولذا فلا بد من الصبر والمثابرة. وفي النهاية ليس هناك ما هو أكثر ضررا من الانكفاء علي الذات ومعاداة الآخرين.


مصر, أحوج ما تكون للانفتاح علي العالم. ولكن ليس معني الانفتاح التبعية والخضوع, وهذا بالضبط ما فعلته البرازيل وتركيا وكوريا ومن قبلها الصين وغيرها من الاقتصادات الناجحة. لا بأس من التفكير خارج الصندوق وانتهاج أساليب جديدة وغير تقليدية بشرط أن تكون هذه الدعوات محددة وواقعية وقابلة للتنفيذ وليست مجرد عبارات مرسلة أو تمنيات غير واقعية. والله أعلم.

 

الآن:العربية نت

تعليقات

اكتب تعليقك