قيم الرأسمالية ومستقبل منطقتنا السياسي بقلم د. عبد العزيز الغدير

الاقتصاد الآن

621 مشاهدات 0


موظف في إحدى الشركات الخاصة لاحظ أن معظم الموظفات اللاتي يعملن في الشركة يأتين للعمل بسيارات فاخرة، ويبدو على معظمهن الثراء، الأمر الذي جعله يستفسر عن سر ذلك: هل واسطة الأثرياء وعلاقاتهم هي التي وظفتهن في الشركة أم أمر غير ذلك؟

 

يقول بعد أن استفسرت من إدارة الموارد البشرية بطريقة غير مباشرة ''تبين لي أنهن الأجدر في الوظيفة بعد أن تقدمت أعداد كبيرة لهذه الوظائف وتم تقييمهن على أسس علمية ومقابلات شخصية، أي أن ''الجدارة '' كانت المعيار في الاختيار، وأن الإدارة صارمة جدًا في اختيار الأجدر، وعندما تساءلت عن سبب كون معظمهن من حالة اقتصادية ممتازة قيل لي إن معظمهن متخرجات في جامعات خاصة عالية الجودة التعليمية؛ ما يمكنهن من اجتياز الاختبارات والمقابلات، في حين تخفق معظم خريجات الجامعات الحكومية مقارنة بهن''.

 

بالنسبة لي كمهتم بالشأن الاقتصادي أدركت أن قيم الرأسمالية ومفاهيمها كالجدارة أصبحت أساسية للتوظيف والاستمرارية والترقي في القطاع الخاص، وأن هذه القيم والمفاهيم بدأت تعمل بكفاءة في مجتمعنا ذي الاقتصاد الرعوي الذي تلعب فيه الواسطة والانتماء الاجتماعي الدور الأساسي في التوظيف والاستمرارية والترقي، وأن مفهوم ''الجدارة'' أصبح محفزًا للقائمين على برامج توطين الوظائف من جهة وأولياء الأمور من جهة أخرى لتعليم المواطنين والأبناء، وتأهيلهم بما يرتقي بمستوى جدارتهم لنيل الوظائف المتاحة، وأن الواسطة والعلاقات الاجتماعية بدأت تتراجع في الأهمية بعد أن أصبح القطاع الخاص الذي يعتمد على كفاءة الموظف هو المُوظِف الأكبر.

 

الموظف الجدير بالوظيفة هو ذلك الموظف الذي يتمتع بمعرفة ومهارات في الجانب الفني للوظيفة، ومنظومة قيمية مفاهيمية محفزة، وسمات شخصية مناسبة لمهام الوظيفة، وبالتالي فالجدارة تشتمل على منظومة قيمية مفاهيمية حيال الوقت والإتقان والانضباط والمصداقية والأمانة والعمل بروح الفريق الواحد والاحترام والتعاون والتكامل والصبر إلى غير ذلك، وبالتالي فإن الجامعات والمعاهد والمدارس والمؤسسات التدريبية ستتجه لتعزيز كل ذلك كي تكون ناجحة ومميزة ويقبل عليها الطلاب والمتدربون ليحققوا شرط الجدارة الذي بات مهمًا في الحصول على الوظيفة والترقي في سلمها والذي سيصبح أكثر أهمية كلما أوغلنا في الخصخصة وزادت المنافسة على الفرص الوظيفية المتاحة.

 

منظمة التجارة العالمية التي انضمت إليها المملكة ومعظم دول المنطقة تعمل على تحرير التجارة من كل القيود والتأسيس لمفهوم ''المنافسة'' كأساس حاسم لنشوء الأعمال واستمراريتها وتطويرها ونموها محليًا وإقليميًا ودوليًا، بعيدًا عن جميع أشكال الدعم والمساندة والتفضيل، الأمر الذي حدا بجميع الدول التي انضمت إلى هذه المنظمة لإعادة هيكلة اقتصادها ومؤسساتها ومفاهيمها ومراجعة كل برامج تأهيل مواردها البشرية، ثروتها الحقيقية؛ لتتمكن من تحقيق شروط المنافسة في الواقع الاقتصادي العالمي الجديد، وبالتالي فنحن أمام مرحلة انتقالية ترتحل فيها كل قيم الاقتصاد الرأسمالي ومفاهيمه وأدواته لمنطقتنا؛ ما يؤصل لواقع ثقافي واجتماعي جديد، وبالتالي واقع سياسي جديد أيضًا.

 

الاقتصاد الرعوي الذي عمل به بطريقة أو بأخرى وتحت أسماء مختلفة في دول المنطقة طعن الاستدامة في مقتل؛ ما نتج منه معدلات بطالة وفقر وأمية عالية جدًا وانتشار كبير للأمراض، التي بات معظمها مستوطنًا كأمراض أو أوبئة مستعصية، سواء تلك التي تصيب الإنسان أو الحيوان، خصوصًا في الدول غير النفطية، الأمر الذي أدى إلى انفجار الأوضاع في تلك الدول (تونس، ليبيا، مصر، سورية، واليمن)، وأدى إلى حراك واحتجاجات بمستويات مختلفة في دول أخرى كالجزائر والعراق، وإن تعددت الأسباب والتحليلات؛ ما جعل المنطقة تعيش مرحلة انتقالية خطرة، خصوصًا في ظل توافر وسائل التواصل الاجتماعي الذي مكّنت الأفراد من صناعة المحتوى الإعلامي ونشره أو بثه، ومكّنتهم من التواصل والتفاعل وتبادل الآراء والمعلومات والعمل الجماعي.

 

الدول النفطية، والخليجية منها على وجه الخصوص، لعب النفط الذي ارتفعت أسعاره دورًا كبيرًا في تجنيب شعوبها الفقر والجهل والمرض، ومكّنها من تطوير بناها التحتية ومؤسساتها الخدمية وتحقيق مستويات رفاهية أكثر من جيدة، خصوصًا في الدول الصغيرة الحجم قليلة السكان، لكن نتيجة لارتحال قيم الرأسمالية ومفاهيمها للشعوب الخليجية أصبحت تلك الشعوب في حالة من القلق على مستقبلها وهي ترى أن الاستدامة الاقتصادية التنموية لم تتحقق وأن واقعها ومستقبلها مرهون بوضع النفط من جهة الاستخدامات والأسعار؛ الأمر الذي ولد حراكًا شعبيًا مطالبًا بمعالجة هذا الوضع المخيف والمقلق بأسرع وقت ممكن.

 

باختصار، إن انتقال الرأسمالية بمؤسساتها وهياكلها ومنتجاتها وقيمها ومفاهيمها نحو منطقتنا أصبح أمرًا مؤكدًا، وأن معدل هذا الانتقال أصبح أكثر تسارعًا، وأن بقاء الأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية كما هي في ظل هذا الانتقال المتسارع أمر لا يمكن التسليم به وإن بذلت جهود معاكسة في أي من هذه المجالات هنا وهناك، وأن الاستدامة الاقتصادية أصبحت مطلبًا شعبيًا في دول المنطقة كافة، وأن تطبيق مفاهيم الرأسمالية الحديثة المتعلقة بالشفافية ومكافحة الفساد بكل صورها وأشكالها أصبحت عنصرًا مهمًا في تحقيق الاستدامة الاقتصادية التنموية، وكل ذلك جعل المواطنين في دول المنطقة قلقين أشد القلق على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم، وبخاصة أنهم يرون معدلات استجابة متباطئة من قبل القيادات للتعامل مع هذا الوقائع الجديدة المتسارعة التي لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها أو المراهنة على الزمن ليحل عقدها ومشاكلها.

 

ختامًا، أتطلع كما يتطلع كثير من أبناء المنطقة إلى أن تعمل قيادات منطقتنا بكل مستوياتها على التعامل بمزيد من الحكمة والسرعة مع معطيات هذه المرحلة الانتقالية الحساسة التي تمر بها المنطقة، وأن نتكاتف جميعًا لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة التي ستلعب دورًا كبيرًا في تحقيق متطلبات استقرار المنطقة وتجاوزها للظروف الراهنة والمستقبلية باغتنام فرصها وتجاوز تهديداتها بكفاءة عالية.

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك