لا بديل لأوروبا عن التقشف ..بقلم راتشمان

الاقتصاد الآن

798 مشاهدات 0


معدلات البطالة في إسبانيا تقترب من 25 في المائة، ومعدلات الانتحار في اليونان آخذة في التصاعد، وبريطانيا تعيش ركودا مزدوجا. وسط كل هذا الألم هناك صرخة تنطلق بحدة متزايدة، تقول إن سياسات التقشف في أوروبا هي سياسات خطرة ولا بد أن يقوم شخص ما بإيقاف هذا الجنون.

والآن يتقدم فرانسوا هولاند، الفائز المحتمل في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، مصورا نفسه في حملته الانتخابية على أنه الرجل الذي سيقف في وجه شيوخ التقشف في ألمانيا. وتتردد أصداء حملته ليس فقط في أوروبا، وإنما حتى في الولايات المتحدة، حيث يصطف جهابذة علم الاقتصاد، من لاري سمرز إلى بول كروجمان، مطالبين بوضع نهاية للسياسات التقشفية في أوروبا. ومع ما يتسم به كروجمان من أسلوب تعبيري خفيف الوطأة، فإنه يصف هذه السياسات بأنها ''مجنونة''.

يقول هولاند إنه سيستعيض عن التقشف بالنمو. فلماذا لم تخطر هذه الفكرة العبقرية على بال أحد من قبل؟ ما يدعو إلى الأسف هو أن شعاره الفارغ يقوم على مقترحات عقيمة، إذ يركز برنامجه على حالات تعزيز صغيرة للإنفاق العام على أهداف رديئة، وفي الوقت نفسه يتجاهل من الناحية العملية الإصلاحات الهيكلية التي هي الطريق الوحيد للنمو المستدام.

إن الإنفاق على مشاريع البنية التحتية – الجاهزة للتنفيذ الفوري، حسب تعبير الرئيس باراك أوباما – هو بطبيعة الحال حل كينزي معروف لاقتصاد يجد نفسه عالقاً في ركود لولبي هابط. وفي ظل الظروف الطبيعية يعتبر الإنفاق الذي من هذا القبيل فكرة ممتازة.

لكن توجد في أوروبا أسباب كثيرة تدعو إلى التشكك في هذا الحل. فلو أن إنشاء طرق وقطارات رائعة كان هو السبيل إلى الرفاهية الدائمة، لوجدنا أن اليونان وإسبانيا يتمتعان بالرفاهية والازدهار. فقد شهدت السنوات الـ 30 الماضية اندفاعاً هائلاً في الإنفاق على البنية التحتية، كان يتم تمويله في الغالب من الاتحاد الأوروبي. صحيح أن خط المترو في أثينا رائع وأن قطارات AVE السريعة في إسبانيا تحفة فنية، لكن هذا النوع من الإنفاق لم يقدم شيئاً يذكر لتغيير المشاكل الأساسية التي تُبتَلى بها اليونان وإسبانيا في الوقت الحاضر – خصوصاً البطالة بين الشباب.

وما هو أسوأ من ذلك، من بعض الجوانب، أن تمويل الاتحاد الأوروبي للبنية التحتية أدى إلى خلق مشاكل. ففي اليونان أصبح احتلاب الاتحاد الأوروبي من أجل الحصول على المساعدات والدعم صناعة بحد ذاتها.

وبالنسبة لإيطاليا وإسبانيا، فإن كل بلد منهما لا يمارس التقشف في الميزانية انطلاقاً من رغبة مجنونة في دفع الاقتصاد إلى الهاوية، بل الدوافع وراء البرامج التقشفيه فيهما كانت رد فعل على الحقيقة التي تقول إن الأسواق تطالب بأسعار فائدة غير قابلة للاستدامة على السندات الحكومية فيهما. ولا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أن الأسواق مستعدة الآن بصورة مفاجئة لتمويل المزيد من حالات العجز في أوروبا الجنوبية. والجمهور الذي يطالب بشعار ''أوقفوا التقشف الآن'' يرد بأن المسؤولية تقع على عاتق الجوقة المتناقصة من البلدان ذات التقييم الائتماني الممتاز، من أجل الانغماس في موجة استهلاكية ضخمة وبالتالي انتشال جيرانها من مستنقع الفقر. لكن افتراض الجدارة الائتمانية غير المحدودة لدى هولندا وألمانيا هو افتراض غير مقنع – كما يشهد بذلك رد فعل السوق على إخفاق الحكومة الهولندية في الاتفاق على الميزانية في الأسبوع الماضي.

وحتى في فرنسا، مركز الثورة على التقشف، من الصعب المجادلة بأن المشكلة تكمن في أن الدولة لا تقوم بدور كاف. ففرنسا بلد تنفق فيه الدولة أصلاً 56 من الناتج المحلي الإجمالي، وهي بلد لم يتمكن من وضع ميزانية متوازنة منذ منتصف السبعينيات، وفيه عدد من أعلى الضرائب في العالم.

وهولاند، وهو ليس بالشخص الأحمق، يعلم كل ذلك. وهذا هو السبب في أنه، وراء جميع العبارات الطنانة التي توحي بأن الأمور على ما يرام بخصوص وضع نهاية للتقشف، فإن الشروط والتعديلات الخفية المصاحبة لذلك لا تبعث على التشجيع. والواقع أن كل ما يَعِد به المرشح الاشتراكي هو أن يأخذ سنة إضافية زيادة على الرئيس نيكولا ساركوزي من أجل موازنة الميزانية الفرنسية. ففي أوروبا لا يستطيع حتى اليسار أن يتظاهر بأن الإنفاق من خلال العجز يمكن أن يستمر إلى الأبد. وبالتالي يتم اللجؤ إلى المجادلة بأن الحكومات تختصر النفقات ''بدرجة تفوق الحد وبسرعة تفوق الحد'' على حد تعبير إيد بولز، وزير المالية في حكومة الظل في بريطانيا. وهذه مناوشات على نطاق صغير – لكنها مغلفة بقناع يهدف إلى إعطاء الناس انطباعاً بأنها خلاف رئيسي حول مسائل تتعلق بالمبادئ.

لأنه بينما يصوَّر الألمان على أنهم مدافعون أغبياء عن التقشف الذي لا نهاية له، فإن رسالتهم الحقيقية أكثر حنكة وإقناعاً. ذلك أن الدافع لتحقيق التوازن في الميزانيات في أوروبا يجب أن يكون مصحوباً بإصلاحات من شأنها التشجيع على خلق الوظائف في القطاع الخاص.

والنطاق الخاص بالإصلاحات التي من هذا القبيل هو نطاق ضخم. فالضرائب على العمالة في فرنسا عالية جداً. ومما يحسب لهولاند أنه يعد باقتطاعات ضريبية بالنسبة لأصحاب العمل الذين يشغلون الشباب. لكن من الأفضل أن يتم ببساطة خفض الرسوم على العمالة من جميع الفئات. فهذا خفض ضريبي واحد يمكن أن يسدد تكاليفه بنفسه، عبر إيجاد الوظائف.

والشركات الأوروبية مقيدة أيضاً بالروتين الحكومي. ومعدلات البطالة العالية بين الشباب في بلدان مثل إسبانيا وإيطاليا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحماية والميزات المفرطة لمن يعملون بموجب عقود بدوام كامل – الأمر الذي يجعل أصحاب العمل يتوخون الحذر في توظيف أشخاص جدد. وكما اشتكى رجل أعمال إسباني أخيراً: ''في هذا البلد، يعتبر طلاق الزوجة أسهل من فصل موظف''.

والدفع لإجراء إصلاحات لسوق العمل أمر صعب بل وخطير. ففي إيطاليا في الأعوام الأخيرة، تم اغتيال رجلي اقتصاد كانا يقدمان المشورة للحكومة حول إصلاحات سوق العمل. لكن هذه الإصلاحات تعتبر الطريق الوحيد في المدى الطويل نحو تعزيز عملية إيجاد الوظائف.

في المقابل، فإن المطالبات التي توجه إلى أوروبا للتخلص من ديونها تعتبر ضرباً من الوهم. وهناك بطبيعة الحال مجال للجدل حول معدل وسرعة تقليص العجز. لكن في قارة مثل أوروبا تفرض فيها ضرائب عالية، وتخضع لأنظمة مشددة، وعالية المديونية، فإن مزيداً من الأشغال العامة التي تمولها الدولة تبني ببساطة طريقاً لا يؤدي إلى أي مكان.

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك