أثر الإنسحاب الأميركي من العراق على دول الخليج
عربي و دولييوليو 28, 2010, 10:42 ص 4281 مشاهدات 0
عند تتبع مخطط بيانات التدخل الاميركي في العراق منذ ربيع 2003م، نجد أن عملية الاحتلال الاميركي وذرائعها قد شكلت الذروة الدمية في حركة تفاعلات المشهد العراقي. لكن مستقبل العراق بعد الانسحاب الأمريكي سيكون منعطف حاسم في تاريخ العراق الحديث . الا ان خروج الاميركيين لن يكون بسهولة خروج الفرس من البصرة بدون قتال عام 1779م ، ولا كفرار الفيلق السادس العثماني من امام القوات البريطانية في أغسطس/ آب 1918م، و لا كخروج القوات البريطانية وتشكيل نوري السعيد لوزارة قادت العراق العربي المسلم الموحد حتى نهاية العقد الخامس من القرن الماضي. لقد بدأت عملية انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية في 30 يونيو 2009 م تمهيدا لانسحاب القوات القتالية من العراق بحلول أغسطس 2010م، حسب خطط الجنرال غوس بيرنا Gus Perna المسؤول عن الانسحاب بمقتضى الاتفاقية الأمنية التي وقعها العراق مع الولايات المتحدة الأمريكية في 13 كانون الأول ديسمبر 2008م ،اما اكتمال الانسحاب فسوف يكون في 31 ديسمبر من عام 2011م. كل ذلك يجعل الانسحاب الأميركي،وتأثير ذلك على الوضع العراقي وبالتالي على وضع بلدان الخليج العربي والكلفة الأمنية والسياسية للانسحاب، من الامور التي تتطلب البحث من خلال الدراسات الاستشرافية لمعرفة ان كان انسحاب قوات الاحتلال الاميركي يعني في مضمونه انسحاب للفتنة التي مزقت العراق وانسحاب لعدم الاستقرار في شمال الخليج العربي؟ام هو انسحاب للامن في المنطقة ونهاية للعزلة المريحة التي عاشتها دول الخليج لسبع سنوات حين هللت عند وصول الدبابات الاميركية لساحة الفردوس في بغداد،فالتشابه في المقدمات لا يفضي بالضروره الي تشابه في النتائج .
في الدراسات الاستشراف نسترجع الماضي ونحلل الحاضر ونتخيل المستقبل، ولأن الذين يحسنون قراءة الماضي هم الأجدر بقراءة المستقبل تلزم الدراسات اللاستشرافية الباحث بدراسة الماضي بوعي كاف لمختلف جوانب الظاهرة قيد التحليل لتشييد قاعدة بيانات نستنبط منها بعض الدروس والعبر.ولرصد الاحداث في الحاضر علينا ربط ابعادها وتفاعلاتها مهما تباعدت،ثم تأتي خلاصة البحث والتحليل باقرب صورة ممكنة للمستقبل.الا ان الدراسات الاستشرافية تكبلها بعض القيود التي من أهما ثبات حالة الظاهرة قيد الدراسة،والشرطية في التنبؤات بالمستقبل، بالاضافة الى أن المستقبل قد يقلب السيناريوهات رأس على عقب بمفاجآت وتطورات لم يحسب لها الباحث أدنى حساب. ولا تخلو الحالة العراقية من هذه القيود التي تصعب مهمة الباحث عند دراسة مستقبل العراق بعد الانسحاب الأمريكي،فما ابعد العراق حاليا عن الاستقرار، وما اكثر الشروط التي يتطلب وجودها ظروف لن تتهيأ بسهولة لتمهد لتحقيق الكثير من الامور ، وما اكثر المنعطفات والمفاجأت مع كل صباح بغدادي .
وبفعل تضاريس البيئة الامنية الاقليمية سوف تصب السيناروهات المحتملة لمستقبل العراق بعد الانسحاب الأمريكي في حوض مستقبل دول مجلس التعاون، كما يصب شط العرب مجبرا في الخليج . كما يدرك صانع القرار السياسي الخليجي أن العراق يتمتع بثقل سياسي واقتصادي أهله ان يكون حتى وقت قريب عضو فى العديد من المؤسسات الخليجية المشتركة، وكان هذا هو الحال منذ القدم فمنذ احتلال جيوش كريم خان زند للبصرة 1776-1779م وأحداث العراق تلقي بظلالها على ماجاورها من دول الخليج حديثة النشأة،فقد كان من تبعات الاحتلال تأثيرات سياسية و اقتصادية واجتماعية تمثلت في معادلة ان خراب البصرة عمار لميناء الكويت،لهجرة الاسر التجارية وانتقال الوكالات الاجنبية اليها فرارا من الاحتلال الفارسي.وعند وصول عبد الكريم قاسم الدموي للسلطة 1958م دقت نواقيس الخطر في ارجاء امارات الخليج العربي المستكنة في عزلة مريحة في ظل اتفاقيات الحماية البريطانية، نتيجة ميول قاسم اليسارية،ومغامراته التي طالت حتى المد العروبي الناصري،وانتهت بالزحف على الكويت 1961م .وفي زمن البعث طالت نتائج مغامرات صدام حسين دول الخليج واحالتها الى جبهات مستنزفة في حرب الثمان سنوات مع ايران 1980-1988م واحتلال الكويت 1990م ،ثم في زمن مناكفات النظام العراقي للمجتمع الدولي إبان الحظر الجوي وبرنامج النفط مقابل الغذاء، ليكون ختام تلك الحقبة حرب تحرير العراق وإسقاط البعث 2003م .
سوف يكون مستقبل العراق بعد الانسحاب الأمريكي واحد من ثلاث سناريوهات،في السيناريو المحتمل الأول من المتوقع استمرار الوضع الراهن كما هو بما يحمله من سمات عدم استقرار رغم الاجراءات المخلصة الدالة على أمل كبير بمستقبل زاهر. وفي .السيناريو المحتمل الثاني سوف يتم احتواء الفوضى في العراق.اما السيناريو المحتمل الثالث فيتمثل في عراق غارق في الفوضى ومنقسم على نفسه .
السيناريو الأول : استمرار الوضع الراهن كما هو مع مظاهر عدم الاستقرار، رغم الجهود الحثيثة لتجاوز هذه المرحلة. ومن سماته الرئيسية استمرار الإخفاق في تشكيل حكومة عراقية مستقرة وضياع معاني نتائج الانتخابات النيابية بين الكتل السياسية،وزيادة تعقيد المشهد العراقي لتشرذم القوى السياسية وانعدام الثقة بين كافة الفرقاء، وتضارب المصالح الوطنية أو الخاصة بدول الجوار بالاضافة الى المصالح الاميركية ،و الصراعات الطائفية، واستمرار غياب الدور العربي هناك .
السيناريو الثاني: سيتم فيه إحتواء الفوضى،واستعادة العراق قدرته لممارسة دوره الطبيعي كدولة عربية إسلامية رئيسية على الصعيدين الإقليمي والدولي، من خلال ظهور قائد وطني،أومن خلال توحده تحت قيادة مركزية قوية ذات مشروع ديمقراطي محايد ونزيه مستقل عن التدخلال الإقليميية اوالدولية، أو يلقى الدعم منها ببصيرة وسيادة ، من خلال الدور العربي أو الدعم الأمريكي السياسي والأمني و والاقتصادي من خلال تواجد الدبلوماسية الأمريكية،والمدربين والخبراء المدنيين والعسكريين .
السيناريو الثالث: يتمثل في عراق غارق في الفوضى، فتمشيا مع حال دول العالم الثالث التي خرجت من الاحتلال،يتوقع ظهور أكثر من دكتاتور في شكل 'مخلص 'يتعرض العراق خلالها للانقلابات التي سوف تقود الى انهيار الدولة العراقية وانقسامها إلى دويلات وهياكل طائفية وعرقية ومناطقية وعشائرية وقيام نظام اللبننة بصياغة إيرانية في أغلبها ،و تصبح ملعب للتجاذبات الاقليمية والدولية وبيئة حاضنة لبذور عدم الاستقرار في المنطقة .
إن احتمال تحقق السيناريو الثاني المتمثل في إحتواء الفوضى،واستعادة العراق لممارسة دوره الطبيعي كدولة عربية إسلامية رئيسية على الصعيدين الإقليمي والدولي يعني لدول الخليج زوال زمن الاستبداد وزوال العنف وعودة جريان شط العرب ليصب قراحا في الخليج العربي . كما يعني لدول الخليج الاستئناس بجار عربي شقيق موازن للتحدي الايراني في زمن طموحه المتنامي . أما تبعات الأنسحاب الامريكي من العراق حين تحقق احد بقية السيناريوهات فيعني كارثة للخليجيين على المستويات الامنية والسياسية والاقتصادية . حيث إن سقوط العراق من معادلة أمن الخليج يعني تغير الميزان العسكري واطلاق يد ايران التي ما برحت تكرر رفضها لبناء القوات العسكرية العراقية التي ترى فيها تهديدا لأمنها الوطني حيث يشاركها للاسف في هذا الشعور كل من اسرائيل والاكراد والتي تأمل في تاخير بناء ذلك الجيش حتى تحقق اجندتها . ومع عدم قدرة الحكومة العراقية على بناء قوات امنية متزنة حيث لا زال عدد السنة و الشيعة في تركيبها يمثل هاجسا ونقطة خلاف متكررة ، ومع العجز عن بناء تلك القوة في وقت قياسي، سوف يشكل الانسحاب الاميركي فراغل امنيا Vacuum of Power واضحا على صعيد الامن الداخلي والخارجي .كما يعني في اشد مخاوفنا في الخليج قيام الجسر البري الذي طالما تمنته ايران لوصول قواتها البرية الى الجزيرة العربية، حيث ان صراعها المرتقب مع الغرب حيال طموحها النووي قد اجبر مخططي استرتيجيتها العسكرية في غرفة الحرب على البحث عن تكتيك يسمح لهم بنقل المواجهة الى ارض معركة لايفضله العدو، وليس هناك افضل من كيان شيعي في جنوب العراق الواقع على حافة حياض النفط الخليجية الغالية على قلوب الاميركيين . ومن البوادر البسيطة لقابلية قيام هذا الكيان قبول اصحاب المحلات العامة في البصرة والسماوة حاليا وفي منحى تعبوي التعامل بالتومان الايراني.عندها سوف يصبح جيش المهدي قطاع من قطاعات حرس المقدمةVanguard والاستطلاع Reconecence لذلك الجيش الايراني. كما ان ضعف بنية المواطنة العراقية في الجنوب عند انفصاله باي شكل سيؤدي الى منعطفات دموية بين الشيعة والسنة، وستقوم الأغلبية الشيعية بطرد السنة من المناطق المختلطة ودفعهم غربا باتجاه محافظة الانبار، يرافقها في الوقت نفسه موجات هجرة كبيرة باتجاه الدول الخليجية خاصة الكويت والمملكة العربية السعودية، كما سيؤدي ذلك الى جذب شيعة دول الخليج ليكونوا جزء من ذلك الصراع . وسيصبح الجنوب نسخة اخرى من الجنوب اللبناني وملعبا آخر للصراع الاسرائيلي الايراني. اما من يطعن بصحة هذه الخلاصه فله ان ينظر مليا الى انتشار مصداقية الخطاب الذي تتبناه الحركات الإسلامية وكسبها لاحترام المسلمين بعد مكاسب حزب الله في حرب لبنان 2006م حيث سيتحول العراق نقطة انطلاق مجموعات المقاومة ضد إسرائيل، وضد كل من يناوئ الخطاب الجهادي الايراني . كما سيحاول الاكراد اعادة النفخ في جذوة نزعتهم الاستقلالية مما يشرع الابواب امام التدخلال التركية والايرانية وحتى السورية والاسرائيلية واقتراب تبعات ذلك الشرر من طرف الثوب الخليجي .
إن احتمال استمرار حالة عدم الاستقرارأو الأزمة الممتدة في السيناريو الاول ،أو تحقق سيناريو الفوضى الثالث كنتيجة للانسحاب الاميركي من العراق يعني حكومة عراقية عاجزة، قد تبحث عن مخرج لكبواتها بخلق خلافات حدودية لا نهاية لها مع الحلقة الاضعف في المحيطين بالعراق وما تلك الا دول الجوار الخليجية.وما الانسحاب الأمريكي من العراق ألا مسمى مهذب لما هو أكثر تعاسة، فرغم ان استراتيجية الدفاع الوطني الاميركية 2010م قد قامت فيما يخص العراق على ثلاث مكونات هي:إنجاز المرحلة الانتقالية، ونقل الأمن ليكون من مسؤولية العراقيين، ووقف العمليات القتالية في شهر أغسطس/آب 2010، مع الاستمرار في تدريب وتجهيز قوات الأمن العراقية، وتقديم المشورة لها. والمكون الثاني :الحفاظ على الجهود السياسية والدبلوماسية والمدنية المبذولة لمساعدة الشعب العراقي، وحل الخلافات المعلقة، ودمج اللاجئين والمشردين ومواصلة تطوير المؤسسات الديمقراطية ومعايير المساءلة. أما المكون الثالث : فهو اعتماد الدبلوماسية الإقليمية لضمان تحقيق انسحاب مسؤول من شأنه أن يوفّر للعراق فرصة لتعزيز الأمن الدائم والتنمية المستدامة، فرغم كل ما مكونات استراتيجية الدفاع الوطني الاميركية بشأن العراق، الا ان مسمى ماجرى ليس الا ترك العراق لمواجهة قدره في تدهور درامي للتفرغ للحرب في افغانستان، ولتقليل التكلفة المالية و البشرية والعسكرية في العراق، وفي الوقت نفسه ترك دول الخليج العربي لتكون تحت رحمة افرازات عدم الاستقرار في العراق من جهه و تحت ضغط الطموح النووي الايرني من جهة اخرى ،مما يدفعها في غياب منظومة أمن جماعي عربية او خليجية فاعلة للقفز داخل السياج الامن للقواعد الغربية.
تعليقات